أنفاس بريس 24: بقلم سعدية بلگارح
أسفرت سلسلة حوارات أدبية التي كانت من إعداد الأستاذة سعدية بلكارح الشاعرة و الروائية و القاصة رفقة مجموعة من النقاد الأكفاء عما يلي:
من خلال التطورات التي تعرفها الأجناس الأدبية ووصولا الى تشعبها وتنوعها والى مرحلة اللا تجنيس أحيانا فهل يمكن أن يتطور الشعر إلى جنس آخر؟…
☆ سعدية بلگارح
لقد عرف الأدب شعرا ونثرا ثورة قلبتْ موازين مرجعيتة الضيقة من الالتزام بقوالب معينة تحدد هويته وشكله إلى خلخلة تلك القيود والتَّفلُّت (المعقول) ليكتسب سميائية مختلفة تجرده من اجترار “التقليدية” إلى “عصرنة” تواكب الإرهاصات الحياتية..وخلق لغة شعرية قادرة على الاختراق وتأسيس واقعٍ مغاير..وهذا ما يسمى بالتجريب الذي سلكه شعراء كثيرونٍ أبدعوا فيه وأسهموا في ترصيص أرضيته بفنية تعتمد اللغة في البناء وتكثيف حذاقة الشاعر في توظيفها دلاليا لتفجير وخرق الآفاق المحدودة إلى ما وراء التخييل والترميز..ربما من هنا طَفَتْ بعض التخوفات من منتقدي المدرسة الحداثية(بمفهوم التحديث أوالتجريب) في الأدب المعاصر بادعاء أنه قد تتشوَّه صورته بهذه النقلة غير المحسوبة(حسب زعمهم).. لكنْ أثبتت الرهانات صمود هذه القفزات “التجديدية” والحرص على إثبات ذواتها بتحدٍّ سريع الوتيرة..ولا يمكن إغفال هذه الضجة التي أُحدِثتْ في الساحة الثقافية في الشعر والسرد.. التي تعَد ثورة أدبية كبيرة جدا وواسعة النطاق اكتسحت الغربَ فالشرقَ، حيث وجدتْ مرتعها الخِصبَ في بلاد المغرب.. التجريب مستمرٌّ..لكن أن يفقد الشعر سمة الشاعرية ويدخل مرحلة التجرد من جنسه تماما فلا أظن أن يقامر الأدباء بهذه الخاصية التي تميز الشعر عن باقي الأجناس.. بل ما يشهده الظرف الراهن إبان هذا التطور الكبير يبشر بإحياء اللغة المنسية (باستعمال مصطلحات كادت تفقد انتسابها إلى قواميس اللغة، لتوظيفها فنيا وجماليا ودلاليا توظيفا عميقا جدا..بحِرفية لا تخلو من تقنية وإبداعٍ..) أعادتنا إلى زمن اللغة الجميل..الذي كنا نستنبطه من الشعر الجاهلي ومن فطاحلة اللغة.. وهذا لا يعني أن كل الأقلام التي تخوض في هذا الجانب..تملك أدواتها لتحقيق هذه السِّمَة الجمالية.. فقصيدة النثر “المولود الجديد” الذي برز كمسمَّى مستحدَث للشعر(الحر) الذي ظهر مع غادة السمان في بداية القرن الماضي وبدر شاكر السياب مثلا وغيرهما.. تبنتْ كتابتها الكثير من الأقلام إلَّم أقل كلها ولو مرْحليا.. فظهر الغث والسمين..حيث استسهلها الكثير من الكتاب فاندحرَ “الغثُّ”.. وانطلقَ “السمين” يعانق الانبهار والتميز..
وقال الناقد محمد أݣرجوط*
سيبقى النقاش حول ظاهرة الشعر الحديث غثه وسمينه نقاشا تارة يحتد وتارة يفتر خصوصا كلما ظهرت على الساحة الشعرية تجارب جديدة(مثلا الهايكو بكل أنماطه) لها ابعدها الجمالية ودوافعها الإبداعية،هذا التطور فرضته ظروف إحتكاك الشاعر بثقافات وآداب أجنبية مما أتاح للشاعر فرص عديدة لممارسة حريته الإبداعية بكيفية لم تكن
تتوفر للشعراء القدماء.
عقب الأستاذ أشرف دسوقي علي*
سيظل الشعر _العربي خاصة_مثار جدل ونقاش وستظل التحيزات الإيديولوجية والمعرفية حاكمة لهذا الجدل دون حسم وهو صراع ذو حدين إن لم يكن الجدل موضوعيا وبناء والثابت عندي أن الانتصار لشكل ما دون الإلمام بالتراث الشعري العربي والعالمي يمثل كارثة كبري قد تؤدي بل هي في طريقها للتقليل من شأنه وإن شأنه عظيم في بناء الأمم
فأضاف الشاعر أسيف أسيف*
“شأن الشعر عظيم في بناء الأمم “صدقت ..هذه المسألة ادركها عميد الادب العرب د. طه حسين وطالب الدولة بحماية الشعر لما رأى أنه ينزلق الى الحضيض . فاليوم الكل أصبح شاعرا لكنه لا يكتب الشعر بل شيئا آخر بلغة ركيكة وأخطاء تركيبية وصرفية وحتى املائية .
أضاف الناقد بوشتة جامعي*
يجمع النقاد على أن الأنواع الأدبية ليست ثابتة الأركان ولا مطلقة الوجود بل هي كيانات متحركة متحولة بما يجعل من انقراض أنواع وتولد أخرى جديدة وتحولها أمرا طبيعيا بل يكاد يمثل قانون وجود هذه الأنواع ذاتها من حيث أن الفن بطبيعته تجاوز دائم بصفته ابداعا وخلقا متجددا لذلك شهدت نهاية الأربعينيات ظهور شكل جديد للشعر العربي سمي بالشعر الحر أو شعر التفعيلة في أعمال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. وهى جهود تعمقت وتجذرت بفضل اسهامات صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي حيث مثلت صدمة غير هينة التأثير لدى المتذوق والناقد التقليديين على السواء.
ثم تلاحقت بعد ذلك روافد التجديد فظهر ما سمى ب قصيدة النثر لأول مرة عام 1954 عند توفيق صايغ في ديوان بعنوان ثلاثون قصيدة ثم توالت أعمال أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس علي أحمد سعيد في بعض أعماله. وهو ما أثمر جهودا على قدركبير من النضج والاكتمال لدى بعض شعراء السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ثم جاءت قصيدة السرد أو ما يسمى ب القصة-القصيدة ذلك المصطلح الذي صكه الكاتب والناقد ادوارد الخراط في كتابه الكتابة عبر النوعية يؤصل فيه لنوع من الكتابة ظهر في أعمال يحيى الطاهر عبدالله ومحمد المخزنجي ومنتصر القفاش وناصر الحلواني واعتدال عثمان ونبيل نعوم ونزار قباني. حيث يؤكد أن هذا النوع من الكتابة قديم نسبيا في الشعر العربي قصيدة الحطيئة على سبيل التمثيل لا الحصر وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ بِتيهاءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما ثم كتب بدر الديب في أواخر الأربعينيات نصوصا تستعصي على الاندراج في مألوف الكتابات وتتأبى على الانتساب إلى نوع أو جنس أدبي محدد بعينه. أهى شعر منثور، أم تأملات فلسفية مصوغة على شكل قصائد نثرية، أم قصص طليعية؟ أم هى في النهاية قصص-قصائد ،حيث ينتهي إلى اعتبار تسميتها بالكتابة عبر النوعية التسمية الأنسب لتحرير الشكل الشعري من كل شرط سابق أو قالب مسبق ، يفترض دائما شكلا معينا لكل قصيدة ، وأن الشكل لا يعني الوزن والقافية أو انعدامهما بالضرورة لأن الحداثة في الشعر تقتضي أكثر من الوزن والقافية ، فالشكل الحديث هو حركة القصيدة ، وطريقة تكونها ، ومراحل نموها،وعلاقة أجزائها ببعضها البعض. والأصوات الداخلية فيها والإيقاع الموسيقي فيها .
والحداثة لا تعني التجردَ من الغائية فكل إبداع يتم ويتشكل بمعزل عن الحياة ذاتها مآله العدم لأنه إبداع دون غاية أو هدف إنساني ولن ينمو في الآخرين أيضا بل يظل حبيس المغامرة الفردية لأن الإبداع لا يكون بهذه الصفة ما لم يعبر عن حالات وأوضاع إنسانية راصدا ومبرزا المتغيرات النوعية التي تطرأ على الحضارة بما يخدم التطور البشري ويفتح آفاقا جديدة يرتادها الآخرون من أجل حياة أفضل .
يقول ارنست فيشر في حديثه عن الشكل عندما يربطه بالوظيفة فقد شكل الانسان البدائي قطعة من الصخر أو الخشب ليخدم بها غرضا من أغراضه . وهذا الأمر ينطبق على كافة الأشكال , بما فيها الأنواع الأدبية التي تتغير هى الأخرى بتغير الوظائف المنوطة بها.
وعقّب الناقد د.عبد المجيد أحمد المحمود*
يختلف الأدباء و الكتاب اليوم كثيرا في مسمى الشعر، فنجد أن مناصري القصيدة العمودية، يتقبلون شعر التفعيلة مثلا على مضض، و هم ينبذون كل ما يكتب دون القصيد العمودي، و يرون أنه غير جدير بتسمية الشعر، و أنه لا يعبر سوى عن عجز كتابه عن كتابة القصيدة العمودية الموزونة، و ينظرون بشكل عام إلى ما يكتب تحت مسمى قصيدة النثر على أنه خزعبلات و في أفضل الأحوال هو نثر جميل، لكنه بالتأكيد ليس شعرا لأن الشعر وزن و قافية و بحور لها شروطها و أصولها و هم يردون على من يقول إن القصيدة العمودية غير قادرة حاليا على التعبير عن هواجس الإنسان المعاصر و همومه و مشاكله، بالقول: إن هذا الكلام غير دقيق و إن القصيدة العمودية لا تزال حية و مرنة بما فيه الكفاية لمعاصرة أية تبدلات على المستوى الحياتي و النفسي للإنسان.
فإذا اتفقنا بداية على أن الشعر هو مصطلح لا تسمية ثابتة بحد ذاتها فإن هذا سيفضي إلى فض الاشتباك، لأن المصطلح هو رداء واسع يمكن أن يستوعب أشكالا مختلفة من الكتابة تحت عباءة واحدة، أما في حال ثبت بالاستدلال التاريخي و المعجمي و التداولي على أن الشعر محصور فقط في الأشكال الموزونة من القصيد، فإننا يجب ألا نجد ضيرا من التنازل عن تلك التسمية قصيدة النثر و كل ما يمت لها من أشكال نثرية يطلق عليها لقب شعر أو قصيدة، و هذا التنازل لن يقلل أبدا من قيمة ما يكتب كنثر، و يمكن اختيار تسمية تعبر بشكل سيميائي دقيق عن مجمل الكتابات النثرية غير الموزونة و التي تكتب بقصد الشعر، و هذا سيشكل بالتأكيد حافزا قويا لكتاب و مرتادي هذه الأنماط الكتابية للإبداع فيها و إثبات جدارتها بموازاة الشعر العمودي، و لنترك المتلقي و الزمن هما الحكمان في استمرارية هذه الأنماط و ديمومتها و بقائها.
و أريد هنا أن أسجل اعترافا صريحا من خلال معايشتي و نقاشي مع قراء متذوقين لكل أصناف الكتابة و خاصة الشعر، فقد وجدت ميلا واضحا لجهة الشعر العمودي و كان العنوان العريض أن ما يكتب تحت مسمى قصيدة النثر يصعب فهمه، و يشتمل الكثير من الغموض و أحيانا الغرائبية التي تصل حد التناقض فلا يفهم القارئ عما يكتب الشاعر و لا ماذا يريد، و هذا ما يجعل هذا الفن نخبويا حتى اللحظة و لم يستطع ملامسة الشارع العريض إلا في القليل النادر و هنا نعود إلى التساؤل المتكرر و الملحّ لمن نكتب؟
إن المتعة الحقيقية التي يشعرها الكاتب أو الشاعر هو حين يرى أو يسمع كتاباته تتردد على ألسنة الناس حيثما ذهب و ليس في أن تظل حبيسة رفوف قليلة لناقد ملهم أو أديب متنطع، مهما عظّمت القراءات النقدية من شأن تلك النصوص، فهل استطاعت الكتابات النثرية أن تحقق هذه المعادلة الصعبة.
إنني أرى حتمية تطور الكتابات الأدبية و أن تتوالد أجناس جديدة من رحم أجناس قديمة و كل جنس جديد يستطيع إثبات وجوده مع الزمن و لن ننسى أن الأدب مرتبط بالوضع الحضاري العام لكل بلد.
في حين ختمت الشاعرة رشيدة خيزيوة* النقاش :
عن تطور الشعر إلى جنس اخر، سأقول أن يتفرع عنه شيء آخر او اشياء اخرى طبعا كتابات جميلة من رحم اجمل ..و هو الشعر الراقي الموزون.
هكذا ارى الامور و احبذها طبعا..ان يظل ذاك الشعر الجميل بقافياته و وزنه و بحوره ينقلنا الى عالم الروعة وقوة اللغة و عمق الوصف مع سيمفونية جميلة متناسقة و كأنك تسمع لحنا يسري لداخلك بكل عفوية و قوة و رقة سواء أكان غزلا او هجاء او فخرا اوعتابا او اي شيء يمس النفس البشرية و يخترق مسام الوجدان.
لا يمكن الا ان نجزم ان الشعر بمعناه القديم المتعارف عليه و الذي ابدع فيه شعراء الجاهلية ومن تبعهم بعدها لا يمكن الا ان يكون أجمل ما كتب و ما سيظل يكتب بحول الله ..لأن عشاق الحرف و لغة الضاد ومحبي هذا الجنس الادبي مازالوا يبدعون قصائد رائعة تجعلك تصمت وتتأمل و تعيش اجمل اللحظات و تفتخر بكل هذه القوة التي تتميز بها لغةالضاد …
ان تتفرع اجناس اخرى او شعر بمسميات اخرى وبانماط جديدة كما هو الان بالنسبة للشعرالنثري فهو شيء جميل ايضا على ان تحترم طبعا فيه لغة الاساس بكل جمالياتها وروعة الصور الشعرية و الموضوع وان غابت القافية والبحر فسيبقى حرف الضاد شامخا معبرا تعبيرا راقيا و ساميا فاتحا المجال لمن يعجز ان يحترم قواعد الشعر العمودي الذي اظنه ليس سهلا على الجميع ..
لا شيء يجب ان يقف ضد الإبداع طالما يحترم قواعد الجمال اللغوي و يحافظ على لغة الضاد و يصل مشاعر الناس و يلمس احساسهم و يعبر عن ما يقع في عالم كل زواياه تنبض بموضوع وهاجس و فكرة…
شكرا على التعميم والنشر?
بالتوفيق المثمر إن شاء الله