دراسة في كتاب التدبيرات الالهية في أصلاح المملكة الانسانية للشيخ الأكبر محيي الدين أبن عربي
دراسة في كتاب التدبيرات الالهية في أصلاح المملكة الانسانية للشيخ الأكبر محيي الدين أبن عربي
أنفاس بريس 24: دنيا الحسني / العراق
وهو يشمل على مقدمة وتمهيد واحد وعشرين باباً من التوحيد في تدبير الملك الذي لا يبيد، على التدبير الحكمي والنظام الإلهي، وجاء غريباً في شأنه ممزوجاً رمزه ببيانه، يقراءه الخاص والعام
(قد علم كل أناس مشربهم). وهو لباب التصوف، وسبيل التعرف بحضرة الكشوف والتعطف، يلهج به الواصل والسالك يأخذ حظة منه المملوك والمالك. يعرب عن حقيقة الإنسان وعلو منصبه على سائر الحيوان، وإنه مختصر من العالم المحيط، مركب من كثيف وبسيط، حتى برز على غاية الكمال، وظهر البرازخ بين الجلال والجمال، فليس في الجود بخل، ولا في القدرة نقصان، وصح ذلك عند ذوي العقول الراجحة بالدليل والبرهان، وبهذا قال أحد الأئمة،(وليس أبدع من هذا العالم في الإمكان ).
(المقابلة بين تدبير سياسة المملكة الدنيوية … وبين سياسة المملكة الإنسانية):
وجاء في التمهيد خلاصة فكرة الكتاب، قال الشيخ الأكبر: إن الإنسان عالم صغير مسلوخ من العالم الكبير، أي ركز على مقارنة بنية الانسان ببنية العالم، لذلك ركز على العالم الباطني للإنسان، فقد تبنى هذا الكتاب المستخرج من العلم ( اللدني )، المسمى في (الإمام المبين) الذي لا يدخله ريب ولا تخمين وقد جعل الشيخ الأكبر ( مقدمة الكتاب ) عبارة عن توطئة لعلوم التصوف)، وقد وصف التصوف بقوله: التصوف أمره عجيب، وشأنه خاص وغريب ، وسره لطيف، وليس يمنح إلا لصاحب عناية وقدم وصدق..) وأن مبنى طريق التصوف على التسليم والتصديق والإخلاص، وكيف دخلوا المؤمنين في (الانقياد والتسليم)، وتعرفت عليهم وظائف التكليف، وهناك دليل واضح، وعلة لكل سؤالًا عن رؤية الحق واتباعه ورؤيته الباطل واجتنابه. وأن الإيمان هو عبارة عن معتقد إستقرار في القلب وطمأنينة النفس ذاك إن المؤمن لما كان طالباً لربه، متردداً في طلبه إلى الوثن، ومرة إلى الشمس والقمر، و مرة إلى النيران، وهو في ذلك متحير لا يستقر ولا يسكن، فلما علم الله منه صدق رغبته وقصده أفاض على قلبه نور الهداية أستقر القلب واطمأنت النفس. ( قال الله تعالى:( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ 75سورة الانعام ]
(الحضرة الانسانية كالحضرة الإلهية بل هي عينها):
الوجود الحقيقي حيث يخرج العارف من ظلمة الغيب إلى النور الشهود فما أمامه كان شهادة، وما وراءه غيباً، فهو في أمامه محفوظ بنفسه، وفي خلفه محفوظ بربه، إن التجلي الإلهي الدائم لم يزل وهذا الظهور مع كثرته ودوامه لا يتكرر أبدًا. فالمخلوقات في كل لحظة تفنى أي تذهب صورتها لتظهر مثيلتها في اللحظة التالية ويجب أن لا نقول بوجود فاصل أو إنفصال زمني، التجلي يفني أحوالًا ويعطي أحولاً في المتجلي له ، وبه يظهر الانتقال من حال إلى حال في الموجودات، إن كشف الحقائق يتم عبر أفراد وجميع النتائج لا تكون إلا عن الفردية، بما في ذلك المنفعة العامة الإنسانية، العالم إنسان كبير والإنسان وإن صغر جرمه عن جرم العالم فإنه يجمع حقائق العالم الكبير، ففي الإنسان قوة كل موجود في العالم وله جميع المراتب وهذا الذي نسميه (الإنسان الكامل)، وما من شيء في العالم إلا وله حظ في الصورة الإلهية، والعالم كله على الصورة الإلهية. ولم يظهر في الإمكان معنى في العالم إلا وظهر مختصره في إنسان. ولهذا أختص وحده بين الموجودات بالصورة وما فاز الإنسان الكامل إلا بالمجموع، وما كملت الصورة من العالم إلا بوجود الانسان الذي جمع الحقائق الإلهية وحقائق العالم، وهو الذي يكون الحق لسانه وبصره وقواه وجوارحه بالأمر الإلهي، إن أوامر الحق مطاعة إلى قيام الساعة، الأوامر الخفية و الأوامر الجلية. فإذا كان العبد عبد مأمور في الفرض الواجب فإن الحق أعطاه، في ما يسمى نفلاً، مجال الإختيار وكساه حلته. فهو خادم الأمر الإلهي بالإرادة الربانية وليس خادم الإرادة التكوينية. الله سبحانة وتعالى هو منشيء للدين، والحق هو واضع الأحكام. حيث أن الدين يجسده قولك و فعلك والإنقياد للتطبيق هو جوهر فعلك. وأن الإنسان اذا قايض نفسه بالعبودية حيث إذا حزم على الممكن المحسوس اي (الوعي الذاتي) مع نفسه والهوى تجلت الصحوة الروحية و كان حراً لا عبودية فيه، وإذا وقف مع استعداداته الكيانية كان عبدًا فقيراً، فليس له مقام في الحرية المطلقة. ( قال الله تعالى : )رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ] سورة غافر 15]
ومقام الحرية للإنسان ذو نسبتين : نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية، ونسبة يدخل بها إلى الحضرة الكيانية. ويقال له رباني من حيث أنه خليفة الرب والأحسن تقويماً، أي أن عبودته محققة فقط لله سبحانه وتعالى و مرتبه عبودته إنها ليست كمرتبة العبادة ولا العبودية وهي أعلى منهما فالعبادة مقرها البدن وهي إقامة الأمر، والعبودية محلها الروح وهي الرضاء بالحكم والعبودة محلها السر الإلهي ، لذلك فإن ياء النسبة محذوفة منها، بعكس العبودية، ولهذا ينسب عباد الله المقربون إلى العبودة، لا إلى العبودية فيتوجب التفريق بين ما ينسب إلى الصفة وبين ما يضاف إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا يخرج عباد الله من العبودية إلى العبودة لما فيهم من أسرار العرفان فهم العبيد الأرباب العلماء الراسخون في العلوم الالهية بما في ذلك الرسل و الأنبياء والأولياء عباد الله الصالحين.
ليس في الكون إلا الرب و المربوب، قال الله تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده) فجعل النبي (ص) عبداً محضاً، وجرده من إرادته عن كل شيء، حتى عن الإسراء، والعبد المحض من حمى نفسه من أن يقوم به وصف الربوبية أو الالوهية تنسيب إنما هو تسخير وتكريم إلهي بتبسيط أكثر ليس فيه شيء من السيادة على أحد من المخلوقين، ويرى نفسه فقيرة إلى الله سبحانه وتعالى والغني عن كل شيء في العالم، الزاهد في كل شيء لكن عين الحق من خلف حجاب المولى ترعاه بالرعاية الربانية ، ارايت لما ثبتت نبوة رسول الله محمد صلى
عليه وعلى اله وسلم، وأستقر في نفوس العقلاء أنه ينطق عن الله تعالى بالحق (بقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
ويعزو الشيخ الأكبر القدرة عن كل ما فعله عن الأمر الإلهي فكل مؤلفاته قيد عهد وميثاق عندما كانت تجتمع المناسبة إلى الإذن الإلهي، في تلقي العلوم الإلهية، إن الوثيقة بيننا نحن المخلوقات وبين الله سبحانه و تعالى وثيقة مواصفة فما له ليس لنا وما ليس له هو لنا : – بقوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
[ سورة المائدة: 7]
والولي، لا يأخذ النبوة من النبي إلا بعد أن يرث الحق الرسل والانبياء ويهبه لمن يشاء من صفوة العباد فيلقي تعالى إلى الولي هذا الإرث العظيم ، أي أن الولي وريث النبي، نبوة الوارث قمرية … ونبوة النبي شمسية. ( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ ال عمران 180] ..