إنتروبيا الديمقراطية الغربية.. أوهام العامة وكذب الساسة
حسن العاصي كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك
قد تكون حلماً مستطاباً في غفوة ضنك الحياة، وربما شراباً عذباً في قيظ الاستبداد، لكنك إن استجليت حقيقتها، تدرك أنها سراباً تحسبها الشعوب ديمقراطية. إذ كلما اعتقدنا أننا ندنو من الديمقراطية، نجدها تبتعد، حتى يخيل أن إدراكها غاية محالة، ليس في بلداننا العربية فحسب، بل حتى في تلك البلدان التي ابتكرت الديمقراطية واحتضنتها. إن القول السائد في الغرب أننا نعيش عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة يصدقها الكثيرون.
هل تحتضر الديمقراطية الغربية في أوروبا، أم أنها تعاني مرضاً يتعلق بالنمو؟ سؤال بات يشغل اهتمام كثير من المفكرين الغربيين، في فترة تصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد بدأ يخفت بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الادرياتيكي، لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي يحتاجه.
تاريخ الديمقراطية
الديمقراطية مفهوم مشتق من كلمتين يونانيتين هما “ديموس كراتوس” تعنيان حكم الشعب. وهو تعبير يناقض مفهوم الملكية في المفاهيم اليونانية. فالديمقراطية هي مصطلح إغريقي ظهرت أولى براعمها في مدينة أثينا اليونانية القديمة. وتعني حكم الشعب للشعب وبالشعب. وردت لأول مرة في كتب “أفلاطون” حين كتب في سياق الحديث عن الدستور الذي ينظم شؤون مدينته، أن “الديموكراتيا” ليست أسلوباً للحكم، إنما هي شهوة تتيح لبعض الناس التحرر من كافة المعايير والانفلات من الضوابط. وقال الفيلسوف “أرسطو” تلميذ أفلاطون أن الديمقراطية أمر طيب طالما يتم منع الديمقراطيين من ممارستها.
الديمقراطية التي ولدت في أثينا قبل الميلاد، كانت الجمعية التشريعية تتخذ القرارات بواسطتها، بحضور كافة المواطنين، لكن فقط “الإثنيين” الذين كانوا يشكلون حوالي 18 في المائة من السكان، هم وحدهم من يمتلك الحق في التصويت، لأن “الديموكراتيا” كانت تستبعد النساء والعبيد والرجال الذين لا يمتلكون شيئاً، وكذلك كل من ينحدر من سلالة مختلطة. وحتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكافة المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سراً بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.
تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. في كتابه “الجمهورية” ذكر أفلاطون أن معلمه سقراط حين كان يحاضر في طبيعة الدولة المثالية، وفي سياق حديثه سأل صديقه وشريكه “أديمانتوس” إن كان يفضل الصعود على متن باخرة يقودها أحد الركاب، أم قبطان متدرب وخبير. بهذه الاستعارة كان سقراط يجري مقاربة مفهوم الدولة، حيث يعترض على الحكم الديمقراطي، وضرورة عدم السماح لأي كان بقيادة سفينة الدولة. واعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. افلاطون نفسه أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة.
أرسطو بدوره اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم اليوناني “سولون”.
إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي “فولتير” الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعاً عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية.
أصبح مصطلح الديمقراطية متداولاً بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين رداً على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.
مع ظهور علماء الطبيعة “نيوتن” و”غاليلو” في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رؤوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة “فصل الدين عن الدولة”. وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سبباً في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية “بريطانيا، السويد، هولاندا”
لماذا يقبل الغرب على الديمقراطية السيئة؟
إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلاً مباشراً حاداً إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية يحتكرها نسبة ضئيلة من السكان اللذين يمتلكون حق التصويت وكلهم من الذكور الأصليين. كانوا يجتمعون في الجمعية العامة ويتداولون الشأن العام بكل حرية في الميدان العام. ديمقراطية وفرت مناخ من الحرية في أثينا لم يتحول إلى فوضى، وديمقراطية أتاحت بعض العدالة وبعض المساواة ولكن أمام القانون، بحسب ما رواه “بيريكليس” حاكم مدينة أثينا.
الديمقراطية اليونانية أتاحت إمكانية أن شغل العديد من المواطنين العاديين اللذين تم اختيارهم عشوائياً مناصب حكومية. وقد نال الفيلسوف “سقراط” نفسه منصباً بهذه الطريقة، وهي الديمقراطية التي قتلته أيضاً، بعد أن تم إجباره على تجرع السم عقاباً على معتقداته المعرفية، وبهذا يكون “سقراط” أول رجل في التاريخ يعدم بسبب أفكاره.
انشغل سقراط بالإشكاليات التي يلقيها المواطنين غير المتعلمين في حال حصولهم على مناصب في السلطة، وهي إشكالية ما زالت تشغل عدد من المفكرين منهم عالم “الأثولوجيا ” البريطاني “ريتشارد دوكينز”.
ويعتبر سقراط أن في الحياة شيء واحد صالح ومفيد هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.
في هذا السياق نذكر أن نصف السكان الأمريكيين البالغين لا يعرف معلومات مهمة واساسية عن عملية التصويت والانتخابات، كما أنهم يجهلون عمل ووظيفة كثير من دوائر ومؤسسات الدولة الأمريكية. ولكن فيما يتعلق باليونانيين القدماء كان التعليم يتعلق باللغة والمنطق والهندسة والحساب والفلك والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم اللبرالي الحديث. إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل. وهذا يقودنا إلى مفهوم أن على جميع المواطنين الحصول على تعليم مناسب لكي يتمكنوا من حكم أنفسهم، حتى لا ينتهي بنا المطاف مثلما حصل في أثينا، كانت ديمقراطية في الاسم، لكن يحكمها الرعاع الجهلة في الواقع.
هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب “الديمقراطي” أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، وإن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية “المسكينة” التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيدة “ديمقراطية”.
مبررات أخلاقية
لكل فرد في المجتمع الحق في ممارسة حرياته الشخصية، لكن النزوع نحو الممارسة العشوائية بحيث يتم تغليب المنافع الشخصية الفردية على مصالح الأفراد الآخرين في المجتمع، سوف يؤدي إلى تصادم أناني غرائزي بين رغبات البشر، مما يعني أن القوي يفرض جشعه على الآخرين، ويستأثر بالحقوق كافة. لذلك فرضت نظرية العقد الاجتماعي تنازل كل إنسان عن بعض حرياته إلى الدولة، التي هي بمثابة كيان ينظم الحريات ويوزع الحقوق بالعدل بين المواطنين. حينها يحصل الناس ما هو لهم بواسطة سلطة ملزمة لجميع الناس دون تمييز. هذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة يشعر فيها الجميع أنهم محكومين وحاكمين عبر انتخاب ممثليهم في البرلمانات، وفي المساهمة بصياغة القوانين، مما يوفر الإحساس بالكرامة والاحترام لدى المواطن. تماماً هذا هو الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية.
فكرة الديمقراطية الغربية تقوم على مبدأ إن كانت الشعوب لا يمكنها حكم نفسها بنفسها، فلابد أن تقوم بانتخاب ممثلين عنها في السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فهل يحكم الشعب؟
في الديمقراطيات الغربية، يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة. هذا الأمر يتم في كافة الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسياً مثل الولايات المتحدة، أو كان حكما وزارياً مثل بريطانيا، أو نظاما مختلطاً كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.
لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئاً حقيقياً في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات. ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعداً في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب. إن سيطرة رؤوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.
إنها ديمقراطية تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك.
ديمقراطية تافهة تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالاً تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.
ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في تجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها.
ديمقراطية الكذب
الديمقراطية كما أرادها المفكرون والتي تعني أن يكون الشعب مصدر السلطات، وأن يحكم نفسه بنفسه، لا وجود لها، إذا بقيت هذه الكلمات خالية من أي معنى حقيقي. إن عدم احترام المجتمعات الغربية لمفهوم الديمقراطية كما وصفها الفلاسفة، ليس هو الإشكالية الوحيدة، إنما الطامة هو الكذب والتزييف الذي تقوم به هذه الأنظمة على شعوبها كونها تدّعي أنها دولاً ديمقراطية، وأنها تحترم تطبيق الديمقراطية. إنهم يكذبون لأنهم لا يكشفون الحقيقة بأن مفهوم الديمقراطية وهم غير قابل للتطبيق كما ورد نظرياً، وأنه لا يمكن للحكم إلا أن يكون فردياً. وهذا لا يتعارض مع تشكيل هيئات استشارية لتزويد الحاكم الفرد بالبيانات والمعلومات ونصوص الدستور الذي تجعله يتخذ قرارات مفيدة وقابلة للتحقق. دور الفرد هنا أهم كثيراً من دور الجماعة، والقيادة ومركز اتخاذ القرارات لا يمكن إلا أن يكونا من صلاحية فرد واحد هو رأس السلطة السياسية. لكن هذا لا يعني بأي حال أنها سلطة ديكتاتورية، لأن الرئيس تم انتخابه عن طريق ممثلي الأمة، ويلتزم بدستور البلاد، هذا الالتزام تحميه المحكمة الدستورية العليا.
عوائق الديمقراطية
أهم العقبات التي تحول دون أن ننعم بديمقراطية حقيقية هي، وجود الحكام المستبدين الذين يحولون دون تشكل معارضة حقيقية لأنهم سوف يكون مصريهم إما السجون أو المطاردة، حكام ظالمون يفرضون رأيهم على الجميع بقوة السلطة، وتفشي آفة الفقر بين الشعوب وارتفاع مستويات البطالة، تجعل الناس تستسلم للقهر للحصول على لقمة العيش، وكذلك انتشار مستويات مرتفعة من الجهل تحول الناس إلى فريسة سهلة الانقياد للأكاذيب، ثم وسائل الإعلام التي يتم توظيفها في خداع الناس والكذب على الجمهور، وتضليل الناخبين بواسطة الدعاية المركزة، التي تقوم بغسيل أدمغة البشر وتكييفها مع الواقع.
اختفت صورة الحاكم المستبد -تقريباً- في الدول الغربية، واختفى أيضاً نموذج الرئيس “الزعيم” الذي يتمتع بالجاذبية الجماهيرية، والمقدرة الخطابية التي تلهب حماس الناس مثل ” ونستون تشرشل، شارل ديغول، جون كينيدي”. كما تراجعت كثيراً مستويات الفقر والجهل في الغرب خلال فترة بعد الحرب العالمية الثانية، لأسباب متعددة منها انتشار التعليم وتحسن مستوى المعيشة. مع ذلك تراجع دور المجالس النيابية في هذه البلدان، وانخفضت نسبة المشاركين في التصويت بالانتخابات، وتمادت السلطة السياسية في اتخاذ قرارات كبرى لا تحظى بدعم شعبي.
تحالفات عابرة للقارات
في سبعينيات القرن العشرين ظهرت ما باتت تعرف “الشركات متعددة الجنسيات”، شركات عملاقة يمتد إنتاجها وتسويقها ونشاطها الصناعي إلى مختلف بقاع الأرض، تمتلكها مراكز الأموال في العديد من الدول، لذلك هي ليست منسوبة لدولة بعينها. لقد تطورت هذه الشركات الضخمة تطوراً سريعاً، ونمت حركة التصنيع والتسويق فيها بحيث أصبحت تنافس في نشاطها دولاً كبرى. ماذا يعني هذا؟
يعني أن هذه الشركات العظيمة لم تعد خاضعة للسياسات الاقتصادية التي تحددها الدولة الوطنية أي دولة المنشأ، وأصبحت تهرول نحو مصالحها وتتجاهل المصلحة الوطنية، وهكذا انحسرت سلطة الدولة وتضخمت سلطة هذه الشركات، بل وصلت سلطة الشركات عابرة للقارات أن تحول العديد من الموظفين العموميين للدول الغربية وأهمهم الدبلوماسيين، إلى موظفين يحافظون على مصالح هذه الشركات. فأصبحت الدولة تضعف وهذه الشركات تقوى أكثر فأكثر، وهذا يؤدي إلى ضعف الولاء للدولة الوطنية في مواجهة تيار العولمة.
ولنا أن نتخيل ما الذي حدث للديمقراطية الغربية؟ نعم ما زال في المشهد العام أن الناس ينتخبون أعضاء المجالس التشريعية البرلمانية، ولا زالت الأحزاب السياسية تتنافس فيما بينها للفوز في الانتخابات. لكن الحقيقة التي لا يراها الناس أنه تجري حوارات ومباحثات في الغرف المغلقة بين الزعماء السياسيين وبين ممثلي الشركات الضخمة، وداخل هذه الغرف يتم اتخاذ عدة قرارات تحدد اتجاهات الأحزاب، وتتحكم بكافة خيوط اللعبة الديمقراطية.
النتيجة انخفاض واضح في نسبة المشاركين في التصويت، وغابت القضايا الخلافية الكبرى بين الأحزاب بسبب التوافقات غير المعلنة.
ثم حصل تطور آخر ترافق مع تضخم الشركات العملاقة، إذ تصاعد السلوك الاستهلاكي في المجتمعات الغربية مترافقاً مع ارتفاع مستويات الدخل، وكذلك التطور السريع في وسائل الاتصال الذي جعل التسوق أكثر سهولة. ونتيجة التنافس الشديد بين الشركات والجهات المصنعة، أصبح الشغل الشاغل لها هو توظيف البيانات التي تحصل عليها لزيادة الاستهلاك، وتراجع الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، الأمر الذي يجعل المواطن يقع تحت تأثير وسائل الإعلام التي توجهه نحو السلع التي تحقق الربح الأكبر للشركات، وهذا يكشف زيف الادعاء بأن للمستهلك الحق في اختيار المنتج الأفضل. وهكذا احتل هذا المستبد الجديد – الشركات العملاقة- مكان المستبد القديم.
ماذا عن الضوابط الأخلاقية
خلال السنوات الأخيرة، تبدو القارة الأوروبية للمتابعين، أكثر توتراً وقلقاً وانشغالاً بمتابعة الموجات المتتالية من الشعبوية الساخطة، ومن تصاعد خطاب الكراهية ضد الآخر، لذلك تظهر الديمقراطية الغربية في أضعف حالاتها، لأنه ببساطة يجري تفريغها من محتواها عن طريق توسع الأفكار اليمينية المتشددة.
إن التطرف في أوروبا قد أصاب اليمين واليسار على حد سواء، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، إن الحكومات القومية في بولندا وهنغاريا يهددان حكم القانون الدستوري، ونلاحظ أن الأحزاب المتطرفة من اليمين واليسار في كل من إيطاليا والنمسا واليونان وألمانيا والسويد في تصاعد. ففي الوقت الذي تشيخ فيه الديمقراطية الغربية، علينا أن نلاحظ أن عمرها لا يتجاوز ربع قرن في دول شرق أوروبا.
في استطلاع للرأي أجرته مؤخراً مؤسسة “بيو” الأمريكية للأبحاث، أظهر أن 20 في المائة من المواطنين اليونانيين والإسبان يعتقدون أن الديمقراطية التمثيلية طريقة سيئة لإدارة الحكم. فيما عبر 29 في المائة من الإيطاليين موافقتهم على وجود قائد قوي يتخذ قرارات دون تدخل السلطات التشريعية. وأن 26 في المائة من البريطانيين لديهم موقف ناعم من الحكم الفردي. وفي دراسة مختلفة أجرتها في العام 2016 مجلة الديمقراطية، قال 40 في المائة من الشباب البريطاني أن الديمقراطية لم تعد حيوية، و44 في المائة قالوا إنهم لم يصوتوا أبداً.
هل فشلت الديمقراطية الغربية؟
ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال يحكم باسم الديمقراطية ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك!
إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأنها “فخ الحمقى”. واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلاً. لهذا قال عنها الفيلسوف السويسري “جان جاك روسو” أن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبداً ولن توجد أبداً.
ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالباً لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف إلى نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.
إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكراً على الأحرار والملاك.
أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب، لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.
ما بعد الديمقراطية
يتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات، والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يسارياً ولا يمينياً ولا ديمقراطياً. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.
دخلت المجتمعات الغربية -بمعظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي تم تنظيمها في العديد من الدول الأوروبية خلال العامين الأخيرين، الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعاً جماهيرياً وصعوداً انتخابياً. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري “فيكتور أوربان” بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.
وهذا ما ذكره عالم الاجتماع الفرنسي “ايمانويل تود” حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم وهي عدم اتساق الفكر والتواضع الثقافي والعدوانية والحب المرضي للمال وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسارا في الديمقراطية وخللا في التربية وفراغا روحانيا وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.
إن عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد.
هل يتحول النظام السياسي العالمي، إلى نظام لا شيوعياً ولا ديمقراطياً ولا ليبرالياً ولا رأسمالياً، ويتحول الكون إلى مدن بلا أسوار؟