العرب والتنوير ..خلط الزيت بالماء وشقاء الأمة
حسن العاصي : كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك
وأنت تطالع كتب التاريخ تنبهر بصفحات مشرقة من تاريخ العرب والمسلمين، تجد مراحل عاشها أجدادنا وكانت منارات في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية والرياضيات والموسيقى والفلك والترجمة، إنتاج معرفي علمي استعان به الغرب ونقل عنه المعارف وقطف ثمار العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مما مكنه من شق طريقه نحو التطور والحداثة، بينما نحن أهدرنا هذه الإنجازات في غمرة الصراعات السياسية والاحتقان المذهبي والتعصب الديني والاقتتال الطائفي.
ماذا حصل؟
الأمة العربية والإسلامية دخلت العصر الظلامي حين دمّر المغول بيت الحكمة في بغداد العام 1258 ورموا أمهات المخطوطات العربية ونفائس كتب الطب والفلك والرياضيات في نهر دجلة. وقتل جيش هولاكو أكثر من 200 ألف مسلم حسب بعض التقديرات. وأفضى سقوط بغداد إلى سقوط الخلافة العباسية، بعد تدمير كافة المنشآت العمرانية الحضارية لمدينة بغداد، وقتل الخليفة المعتصم. ومازال العرب يعيشون في العصور الوسطى رغم كافة مظاهر الحياة العصرية التي تحيط بنا.
كان العرب في عصر النور فدخلوا في عصر العتمة، فيما الغرب خرج من هذه العصور الظلامية ليدخل عصر التنوير والتقدم. فقد شهدت أوروبا تحولات فكرية كبيرة في القرنين الخامس والسادس عشر نتيجة الإصلاح الديني الذي تم في النصف الأول من القرن السادس عشر، ثم بسبب الحركة النهضوية التي تمثلت في ترجمة الآداب اليونانية والرومانية، ثم الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر. ثم راح فلاسفة عصر النهضة يهتمون بفلسفة أفلاطون أكثر من أرسطو من أجل تحجيم هذا الأخير الذي كانت أفكاره وفلسفته تتبناها الكنيسة المسيحية. ودخلت أوروبا العصر الحديث التنويري الذي دشّنه عصر النهضة نحو عام 1500 ومستمر حتى يومنا هذا.
فما هو هذا التنوير السحري الذي غيّر المسار التاريخي لأوروبا، ونقلها من حالٍ إلى حال.
عرف العصر الذي ظهرت فيه الأفكار الفلسفية التنويرية في فرنسا بأنه عصر الإيضاح، وفي ألمانيا سمي عصر التنوير، الذي هو في الأصل مصطلح انجليزي كان مرتبطاً بالانتلجنسيا “Enlihtenmen“. وللتنوير كمصطلح فلسفي كثير من التعريفات جميعها تصب في سياق مفاده أن العلوم والثقافة والتنوير قادران على تعديل الحياة الاجتماعية، حيث تتولى العلوم المختلفة تطوير الجوانب العملية في المجتمعات، بينما الثقافة تطور المعارف والعقل والقدرة على التفكير المستقل.
الفكر التنويري يدعوا العقل للتمرد على حاله ليخرج من وضعية القصور التي تسبب له عجزاً عن الاستعمال الأمثل للعقل إلا بوصاية من آخر، وبهذا فإن الإشكالية لا توجد في العقل إنما في صاحب العقل نفسه الذي يتسم غالباً بالجبن أو الكسل أو الاتكالية، والذي يقبل بمبدأ الوصاية على عقله.
التاريخ البشري يعلّمنا أن الممالك – وربما الأمم أيضاً- تولد وتموت، مثل البشر أنفسهم، يولدون ضعفاء بلا حول ولا قوة، تشتد سواعدهم في مرحلة الشباب، ثم يُحسب لهم في مرحلة الرجولة، إلى أن ينتهي بهم العمر بالوهن والضعف والخرف في مرحلة الشيخوخة، التي نهايتها الموت الطبيعي الذي ينسجم مع صيرورة الحياة. وهناك أمم عظيمة لا تفنى. أوروبا التي نتغزل بمكانتها وديمقراطيتها وتنويرها الآن لم تخرج عن هذه القاعدة، وهي ذاتها التي كانت مستنيرة في العهد الإغريقي والروماني، ثم دخلت مرحلة الانتكاسة الفكرية في القرن الخامس، ثم عانت من العصر الظلامي بعد انهيار الحضارة الرومانية وانتشار الأفكار اللاهوتية، ولم تبدأ فيها مرحلة التنوير الحديث إلا في نهاية القرن السابع عشر في إنجلترا ثم في فرنسا وألمانيا وبقية الدول الأوروبية.
التنوير في المصطلح والمفهوم والدلالات
حين سئل الفيلسوف الألماني ” إيمانويل كانت” عن التنوير قال بما معناه أن يتخلص الإنسان ومجتمعه من القصور العقلي، أي عدم المقدرة على قرارات دون موافقة الأوصياء على المجتمع، الذين يستفيدون من استمرار انتشار الخرافات والأفكار السطحية وأثرها على عامة الناس.
“كانت” نفسه كان قد أصدر عمله الشهير “نقد السبب النقيCritique of Pure Reason” في العام 1781 وهو من أهم المؤلفات في نقد الفكر الغربي، شرح خلاله “كانت” كيف يتفاعل السبب والتجارب مع الفكر والفهم.
كان “ديموكريتوس” الإغريقي ” الجد الكبير لليونانيين” هو أول من قال بأهمية تحكيم العقل ونبذ الخرافات، إذ أنه شجع الناس على معرفة محاسن التشكيك بالأفكار القديمة لتحريرها من المفاهيم الوثنية لأنهم يخشون الآلهة.
التنوير كمصطلح فلسفي ظهر عبر افراد ومجموعات كحركة اجتماعية ثقافية فلسفية، تدعوا إلى استخدام العقل والمنطق في تفسير الأشياء، ونبذ الفكر الذي يعتمد على الخرافات، وكذلك رفض الوصاية على المجتمع الذي كانت تفرضه الكنيسة ورجال الدين. التنوير في اللغة هو النور والضوء، جعل الفكر متنوراً، تحرير العقل من الوهم أو الاعتقاد الخاطئ، وكذلك الإرشاد وتبيان الأمر على حقيقته.
دلالات مصطلح التنوير متعددة، أهمها تحرير العقل من أية قيود بهدف تطوير فاعليته، ومنها دلالات تشاركية مع المناهج والنظريات الفلسفية الأخرى، والتنوير هو أحد أهم الشروط لإجراء تغييرات في المجتمع لنقله من حالة التخلف والانغلاق إلى وضع يحقق فيه تقدماً حضارياً ينعكس بشكل إيجابي على واقع الناس. وهو مصطلح أكثر شمولية بدلالات معرفية ثقافية من مصطلح العقلانية الذي يمتلك دلالات معرفية.
هي العقلانية التي انتشرت في أوروبا في أواخر القون السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر وأخرجتها من عقلية القرون الوسطى التي تهيمن عليها تعاليم الكنيسة، وأنظمة الحكم الملكي المطلق، وطبقة الإقطاعيين. والتنوير الذي حرر الإنسان الأوروبي عبر ثورات أدت إلى إقامة أنظمة حكم علمانية فيما يتعلق بموقفها من المجتمع، وهي أنظمة رأسمالية في تعاملها الاقتصادي، وهي ليبرالية في الموقف من الدولة ومؤسساتها، وبناء مجتمعات ديمقراطية. الفكر التنويري أعطى الأوروبيين درساً مهماً أن الواقع -أي واقع كان- قابل للتغيير إن توفرت الإرادة والكادر والظروف والرؤية، وأن الطبيعة – مهما كانت قاسية- يقهرها العلم والمعرفة.
ألم يعرف العرب التنوير؟
التنوير التي كان له الفضل في إخراج أوروبا من ظلاميتها إلى عصر النور، حيث غلب العقل والمنطق الأفكار الخرافية، هذا التنوير لم يكن جديداً كلياً بظني، حيث أنه وجد كومضات قدرية تاريخياً، حيث يشهد التاريخ الإسلامي أن إخوان الصفا والمعتزلة طالبوا بتحكيم العقل وتقديمه على النقل في العصر العباسي. لكن التنوير في أوروبا والذي حصل في القرنين السابع والثامن عشر كان منظماً في حركة قوامها العلماء والفلاسفة والمثقفين، وترافق – وهذا الأهم- مع نهضة صناعية مادية ضخمة قطعت الحوار الذي كان جارياً لمصلحة التفكير العلمي ورفض الفكر اللاهوتي والخرافي والجدلي.
ولنا في تاريخنا نماذج، منذ تجربة المعتزلة الذين تناظروا مع الملحدين ومع أتباع بقية الديانات في احترام وفندوا أفكارهم بالحجة والدليل. مروراً بتجربة الأندلس وبروز مفكرين لمعوا في ميادين العلم والمعرفة “ابن رشد، ابن فرناس، ابن حزم، ابن عربي” الذين قدموا رسالة معرفية تجاوزت الدين والجنس والعرق واللون، حيث كانت رسالتهم للإنسانية جمعاء، وصولاً إلى روّاد النهضة العربية الحديثة مثل “رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التّونسي، وبطرس البستاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني، وغيرهم”، إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت في المنطقة العربية بدءًا منتصف ثلاثينيات القرن العشرين أدت إلى كبوة المشروع النهضوي العربي، وانحسار الفكر التنويري.
التجربة التنويرية العربية الحديثة
في التجربة العربية لم يتكون تيار تنويري بمعنى المفهوم، ومعظم التنويريين العرب متمسكين في ضرورة وصل القطع التاريخي الذي يظنون أنه حصل في الماضي، قسم من التنويريين يؤمن بأن العرب لديهم تاريخ فيستشهدون بفكر المعتزلة ليعتزوا بأن الغرب ليس أفضل منا، وأظن أن هذه الإشكالية جعلت من مستقبلنا يتمترس خلفنا لأن بعض التنويريين العرب رغب في منافسة الفكر الغربي لكن بدون رؤية استشرافية، وهيّأت لظهور “التنوير الأصولي” الذي يستعين دوماً بكل ما هو قديم من أجل بناء الجديد، وكأن المثقف التنويري العربي يخشى الإبداع والمغامرة – زكي نجيب انتهى به المطاف أن ينشغل بالتراث- وكأن بعض الأسماء الحداثية لم تكن تستطيع أن يكونوا خارج إطار الفكر المحافظ – طه حسين أنكر كثير من الأشياء في الطبعة الثانية كان قد قالها في الطبعة الأولى من كتاب الشعر الجاهلي-.
حاول عدد من التنويريين العرب اختبار نظرياتهم الإصلاحية في الواقع، لكن ضمن ما هو متاح لهم، باعتبار أن أية محاولة للإصلاح الثقافي في العقلية والتركيبة النمطية سوف يعرّض جملة القيم الموروثة والمسلمات لدى المجتمع للهز البنيوي، وسوف يحتاج هذا الإصلاح إلى التصدي لكل ما يسبب الجهل والتخلف بالنقد والعمل على تقويمه وتغييره، مما يساهم في نهوض الواقع العام في هذا المجتمع أو ذاك.
العمل الإصلاحي يضرب البنية المحافظة وكل فكر جامد لا يستجيب للتطورات الطبيعية للسيرورة التاريخية. يجري هذا في إطار عمل تجديدي ابتكاري وإبداعي.
معركة شقاء
وبظني أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل مشروع النهضة والإصلاح العربي هو تحول مفاهيمه وشعاراته وكوادره من الفكر البراغماتي إلى الفكر الأيديولوجي بهدف التصدي للمشروع الاستعماري الامبريالي الغربي، وذلك عبر أيديولوجية إسلامية تارة، وماركسية تارة، وقومية تارة أخرى، ثم انقسم المفكرون الإصلاحيون إلى فئة تبنت بالكامل الفكر والحضارة الغربية، وفئة أخرى رفضت بالكامل هذا الفكر، فأورثونا فشلاّ في التجربتين.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لغاية يومنا هذا والجميع يتساءل عن أسباب انطفاء جذوة الحضارة العربية والإسلامية، وعن سبب هذا الانقلاب على تاريخنا لدى بعض النخب الفكرية العربية، والتهليل للتقليد وإشاعة الجمود الفكري والانحطاط الثقافي. والكل يبحث عن العوامل التي أدت إلى حالة من تكلس العقل العربي لدرجة تقديم استقالته من أي نشاط تفكيري. وكيف وصلنا إلى هذا الحال من الجهل والتخلف وحولنا الأمم تحقق إنجازات حضارية، وهناك من يتساءل عن عدم مقدرة القوى والأفكار التنويرية الحداثية حسم معركتها مع القوى المحافظة والأصولية.
نحن نعيد طرح هذه الأسئلة لأننا نؤمن بأن عقل الأمة لا بد أن يستعيد عافيته ورشده كي يتمكن من رسم مساراً جديداً مختلفاً كلياً بالمعنى التاريخي، ويعيد النظر في المسلمات سعياً لولادة نهضة تنويرية عربية حديثة.
ومن المفكرين العرب من يؤمن بأن المشروع التنويري العربي لم يفشل، بل تعثر وهو قادر على تجاوز عثراته، إلا أنني أظن أن الأسماء التي قادت الحراك التنويري في العالم العربي خلال القرن العشرين، وصل بها الحال إلى أن تنقسم على نفسها، تيار سلفي يؤمن بكل ما هو قديم منذ ظهور الفكر الإسلامي، ويرفض كل ما هو حداثي وعصري. وتيار تنويري يرفض كل ما هو قديم ويؤمن بالأفكار والقيم الحديثة، ويظن أن الحل هو في التمثل بالحضارة الغربية التي حققت رقياً وبنت حضارة عجزنا عنها. وبين هذين التيارين من المفكرين ضاعت الأمة وعاشت -ماتزال- في شقاء.
هل فشل المشروع التنويري العربي؟
إن بعض التنويريين العرب انشغلوا في الفكر النظري وغرقوا في التفاصيل، دون أية محاولات تطبيقية عملية لهذه الأفكار في الواقع المعاش. لقد كان المشروع التنويري العربي مشروعاً نخبوياً بالكامل، ولذلك ظل معزولاً ولم يتجذر في عمق المجتمع، وأبداً لم يتحول إلى مشروع شعبي لأنه افتقد الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية المناسبة، وظل ضمن دائرة ضيقة من المتنورين. لذلك نعم فشل التنوير في الوطن العربي، ولم تتاح للمثقفين العرب من تحويل الفكر التنويري إلى فكر جماهيري، حتى أن الفكر الاشتراكي فشل اليسار التقدمي في نقله وجعله قابلاً للحياة في مجتمعاتنا، وأظن أن التحديث والتقدم المادي في العالم العربي كان مفصولاً عن التطور العقلي، فعلى سبيل المثال قام العرب بإرسال الطلاب لتعلم العلوم المادية والتطبيقية والصناعية في الغرب، لكنهم لم يرسلوا احداً لتعلم الفلسفة، وهذا ما أدى إلى فشل مشروعهم المادي، لأنهم حاولوا -بمعرفة أو جهل- فصل العقل عن المادة.
يمتك العرب من الثروات ظاهرها وباطنها، ومن الكوادر العلمية والثقافية والاقتصادية ما يجعلهم في مكانة أفضل من الواقع الحالي، وتؤهلهم لمشاركة فاعلة ومهمة في بناء هذا العالم. لكن كما تعلمون فإن هذه الثروات في معزمها مهدورة ومبدّدة أو مقيدة، وهذا يفسر الفشل الذريع في نهضة المؤسسات الحكومية في معظم الدول العربية، هنا يظهر دور المثقفين وخاصة ذوي العقول التنويرية وثقافة قادرة على التغيير، فالإصلاح الثقافي هو حجر الاساس لأي إصلاح بنيوي شامل، وهو الذي يبني الدول ويضعها في طريق التطور الديمقراطي.
يمكن بناء العقل إما بالعودة إلى ما هو قديم لمحاولة إحياء ما يصلح من عناصر قديمة وإعادة صياغتها من جديد بشكل معاصر، بما يتلائم مع كافة المتغيرات التي أصابت العقل وبنا يتناسب مع المناخات والظروف الحالية في الواقع الراهن، والتي تختلف جذرياً عما كان عليه الحال حين لإن إنتاج هذا القديم. وإما بناء العقل من خلال العقل الحداثي الغربي، واستخلاص ما يتناسب منه مع الحال الراهن للعقل العربي، بحيث يمكن له الخروج من حالة الجمود والاستعصاء المزمن. أو من خلال الاعتماد على الإنتاج المعرفي الخالص لبناء العقل العربي، دون الاستعانة بفكر الآخرين، مع مراعاة الاحتفاظ بالعناصر والخصائص الموروثة الضرورية والتي لابد من التمسك بها لبناء عقل عربي يأخذ بالحسبان حقائق التطور والحداثة.
حالة عربية لا عقلانية
غياب الديمقراطيات العامة في الوطن العربي أتاح للعنف أن ينتشر، والعنف مظهر يؤكد غياب العقلانية في العلاقات، عدم مقدرتنا على تقبل فكرة الاختلاف لأننا نظن بامتلاك الحقيقة كاملة، وبالتالي تغيب المقدرة على إمكانية الاختبار طالما الحقيقة يمتلكها طرف ويحاول فرضها على الآخرين بالعنف. هذا يحصل في غياب شبو تام لدور المثقف العربي الحقيقي الذي يمتلك المقدرة على خدمة محيطه الاجتماعي بما يحقق تقدمه وتطوره في سياق رؤية إصلاحية، لكن حين يتحول المثقف إلى حالة هلامية تنضح نرجسية وأنانية فقل على البلاد السلام.
مناهج التعليم العربية التي تعتمد على التلقين وليس على تحريض العقل ومدارك الطلاب، هذه المناهج تقتل الإبداع والابتكار عند الطلاب العرب الذين يولدون أذكياء حتى يلتحقون بالمدرسة التي تقوم بعمليات تعليمية ترسخ الواقع العربي المقيت، بنمطية لا يمكن معها احترام فكرة الفردية والخصوصية في التعلم التي تنمي الخيال وتشجع على مقاربة علمية للتنافس بين الطلاب القائم على فكرة أنني حتى أتفوق فلابد من هزيمة الآخرين.
وظل الفكر التنويري العربي يحضر فقط في شعارات بعض المفكرين، وخطابات بعض المثقفين، وعلى شكل دراسات أكاديمية الغاية منها الحصول على درجة علمية، لكن هذا الفكر بقي مهملاً دون تطبيق ودون تجربة ومن غير توفير فرصة الاختبار.
فك اشتباك
بظني أن العرب على موعد مع الفكر التنويري الذ ي ما زال يتعثر، والحديث عن التنوير العربي يقودنا للتطرق إلى المشروع النهضوي العربي الذي غاب عن المنادين به أهمية ريط هذا المشروع بالمعرفة والعلم والعقل والتقنيات الحديثة، وعدم الاكتفاء بالتركيز فقط على العلاقة الاستهلاكية مع الغرب. إن قدرة العرب على ملامسة ملامح المشروع النهضوي الإصلاحي التنويري العربي تتوقف بشكل أساسي على حسم حالة الاشتباك القائمة بين السلفية والقيم التقليدية والنظم المحافظة، وبين قيم الحداثة والعصرنة والتطور، وهي حالة من الالتحام ما زالت قائمة ثقافياً وفكرياً وسياسياً في العديد من الدول العربية. لابد لنا من معرفة ذواتنا ومحيطنا وواقعنا بهدف إزالة كافة العقبات أمام مشروع إصلاحي عربي يحقق علاقة سليمة بين المواطن والنظام السياسي بما يضمن مشاركة المواطنين في إدارة شؤون حياتهم، ويوفر ممارسة ديمقراطية تحافظ على حقوق الناس الأساسية التي تم هدرها والتغاضي عنها طوال عقود من الحكم الاستبدادي في معظم الدول العربية، فلا سبيل إلا بالخروج من حالة الكبت السياسي، ومن وضع ثقافة الحاكم القسرية، ثقافة الاتباع والإلحاق والامتثال الجبري، ثقافة الخوف من السلطة ودفن الرؤوس في الرمال، ثقافة لا يمكن أن يكون عليه الحال أفضل مما هو عليه، الثقافة التي تشجع الأنانية والفردية وتضرب الانتماء للجماعة وللوطن. نحتاج إلى ثقافة مغايرة، ثقافة إبداعية تغييرية، ثقافة تسعى إلى تطوير القيم الأخلاقية والإنسانية، ثقافة تدعوا وتحترم حرية الاختيار، تحترم وتصون الحق في المشاركة والحق في الاختلاف دون خوف.
نحن أمام ثقافتين في الواقع العربي، ومن يمتلك سلاح العلم والمعرفة والاتصالات، من يمتلك الإنتاج الثقافي والعلمي والمعرفي، من يستطيع تطويع الأيديولوجيات في خدمة الثقافة وليس العكس، من يستطيع أن يجعل من الثقافة قيمة تخدم مصالح الناس وتطور مجتمعاتهم، من يمتلك هذا سوف يكون الطرف الرابح في معركة التجاذبات القائمة حالياً.
تفكيك الجدار هذا ما نحتاجه
المشروع التنويري العربي مازال ينتظر خلف جدار من المعيقات التي تمنع تحقيقه، وهي الجمود الفكري، والتكلس العقلي، سيطرة ثقافة النصوص وتراجع العقل التحليلي والاجتهادي إلى مراحل خطرة، أيضا من المعيقات الانغماس الفكري في التراث القديم لدرجة تقديسه وهيمنة الخرافة والاساطير على بعض العقول، وانتشار النزعات التواكلية واللا مبالاة مع تراجع مخيف للإبداع وللمبادرات الفردية، شيوع الأنانية والنرجسية لدى قطاع واسع من المثقفين العرب، تضخم بالنفاق الفكري والسياسي، وجود ثقافة تبريرية لكل شيء، انتهازية ثقافية وسياسية واجتماعية واسعة، غياب ثقافة المواطنة، لا وجود لدولة المؤسسات، وهيمنة المفاهيم والأعراف الاجتماعية والقيم العشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والإنسانية والحضارية والقانونية، عدم تقدير الكفاءات في مختلف القطاعات، وانتشار المحسوبيات والواسطة، احتقار الإنتاج الوطني مهما علا شأنه وتقديس أي إنتاج وافد على بلادنا مهما صغر شأنه، شيوع نزعة التقليد للغرب في كل شيء دون معرفة ودراية بالثقافة الغربية، وجود ثقافة لا تحترم الموروث وتدعوا إلى تبني ثقافة الآخر دون شروط ودون مراجعة ودون احترام خصوصية واقعنا، ثقافة هيمنة القيم والأنماط الاستهلاكية وتفشي النزعات المادية والغرائزية، والأنانية المفرطة، والتحلل غير المفهوم والعشوائي من منظومة القيم المجتمعية.
نحن نحتاج إلى بناء مراكز أكاديمية ومراكز أبحاث كبيرة، لبناء المؤسسات التربوية والتعليمية الوطنية وعلى المستوى الجمعي، للبدء في بناء مشروع تنويري يقوم بتعزيز الشخصية الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية للأمة العربية، مشروع لا يستثني أحداً من مكونات المنطقة من مختلف الأعراق والطوائف والمذاهب، يساهم فيه الجميع على قدر واحد من الحقوق والواجبات، في بناء مستقبل يضمن العيش الكريم للجميع في دولة المواطنة التي لا تفرق بين أبناء الوطن الواحد.
إننا نحتاج إلى المثقفين الذين يؤمنون بالممارسة وليس الملامسة، للبدء بمشروع نهضوي عربي يعتمد النقل والعقل والعلم- بقيادة العلم-، يبني الدولة العصرية التعددية المؤسسية، والقضاء على الفكر المطلق والأيديولوجية الشاملة، معتدين على جيل عربي شاب قوي وذكي ويستعمل وسائل اتصال حديثة تطورت بشكل مرعب خلال ربع القرن الأخير. لذلك على المثقفين العرب والإصلاحيين والتنويريين الخروج من الغرف المغلقة والتخلص من والشعارات الخشبية كي يأخذوا دورهم المجتمعي الطبيعي في بدء حوار جمعي عقلاني حضاري هادئ بين جميع الأفكار لصياغة استراتيجية نهضوية جديدة، تكفل إعادة الاعتبار للعقل العربي وتوفر حياة كريمة لصاحب هذا العقل. فالدور المطلوب من المثقفين والمفكرين العرب اليوم هو لعب هذا الدور الريادي المهم في استنهاض جميع مقدرات الأمة، هذا الدور يقوم على المشاركة الحقيقية للمثقفين في التغيير، وعدم الاكتفاء برصد ومراقبة وملاحظة التطورات والمفاعيل التي تحدث في واقعنا العربي، خاصة في هذه الفترة الفارقة في تاريخ العرب، فإما نكون أو لا نكون.