اقلام حرة

مغالطات حول السيرة الفكرية

أنفاس بريس 24 : بقلم : د. محمد الداهي – أستاذ جامعي وأكاديمي وناقد مغربي

نشر ممدوح فرج النابي مقالا في الجريدة الالكترونية “العرب” يوم الاثنين 23 فبراير 2020 بعنوان “الكتابة الفكرية كتابة شعرية تفضح الأسرار”، وبعد أن قرأته مؤخرا تبين لي أن المقال الصحفي يتضمن جملة من المغالطات المعرفية التي يجب تصويبها حرصا على تفادي “التلويث المعلوماتي Infopollution” بسبب انتشاره على شبكة الانترنيت، وخطورته على القراء المفترضين، وخاصة الناشئة التي لا تتوافر على المناعة الكافية لمقاومته والتصدي له.

1- عنوان الإثارة

يتضح -من العنوان بالبُنط العريض- أن صاحب المقال يقتحم مجالا لا يمتلك عدته النقدية أو الشعرية المناسبة. فهو يوكل إلى السيرة الفكرية (وليس الكتابة الفكرية كما يزعم، وشتان بين المجالين!) مهمة “فضح الأسرار”. في حين إنها- كما أوضحت في كتابي “شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل”- تنأى عن الخوض في الأمور الشخصية أو الحميمية للمترجم له، وتستقطب أساسا كل ما يتصل بمساره التعليمي وتكوينه الثقافي والعلمي إلى أن يحقق جزءا من مطامحه في الحياة. وقد يكتشف القارئ معلومات نادرة أو قد يصادف معلومات معروفة عنه بحكم تداولها وتناقلها بين الأجيال المتعاقبة (وخير مثال على ذلك هو التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا).  وإجمالا، فالسيرة الذاتية الفكرية تهتم بالحياة الفكرية لصاحبها، وهذا ما نعاينه في كل الكتابات من هذا النوع، ويمكن -على سبيل المثال لا الحصر- أن نستشهد بقول طه حسين في حق السيرة الذاتية الفكرية لابن خلدون: “لم يقل لنا في ترجمته شيئا عن تربيته الحقيقية، بل التزم الصمت التام إزاء حداثته وحياته العائلية. على أنه عني بالإضافة إلى تعلمه، وفي الكتب التي درسها في مختلف العلوم التي كانت تدرس حينئذ في تونس”([i]).

2- معلومات متقادمة ومجانبة للحقيقة

يعتمد صاحب المقال على معلومات متقادمة دون تحر أو حيطة ؛ وهذا ما جعله يقع فيما وقع فيه أهل الكهف من قبل. لا تراهن السيرة الذاتية الفكرية على “فضح الأسرار”؛ لأنها تعتمد عموما على معارف يتقاسمها الناس فيما بينهم. وليست مهمة السيرة الذاتية –كما يزعم بعض النقاد الأغمار والأغرار- مكاشفة العورات والبوح بالأسرار، ونقل الحقيقة كما هي. ففليب لوجون لا يعني بالميثاق السيرذاتي التعاقد مع الشيطان وتوقيع بنوده بالدم([ii]). وهذا يعني أن السارد لا يبرم مع القارئ عقدا موثقا وملزما، بل يتعهد بقول الحقيقة معتمدا جملة من القواعد التي تؤطرها الأنساق الثقافية والمواضعات الأدبية. قد يجاريه القارئ في مقاصده ومساعيه وقد يختلف معه مقترحا وضع عمله في خانة مغايرة (ما يسميه فليب لوجون بعقد القراءة). وأنبه إلى ضرورة التشديد على لفظ “التعهد” بدعوى أن كاتب السيرة الذاتية لا يزعم قول الحقيقة، بل يتعهد بقولها. وهو فعل لغوي يحتمل التصديق والجدية إن توافرت الشروط الضرورية على عكس التخييل الذاتيAutofiction  الذي يقوم على تعهد متصنع (أتعهد أمامكم بعدم قول الحقيقة، وهذا ما حذا بماري داريوسيك أن تعتبره جنسا لا يتوافر فيه معيارا الصدق والجدية)([iii]). وإن تعهد كاتب السيرة الذاتية بقول الحقيقة فليس هو الشخص الذي يتحدث في النص، بدعوى أن النص هو الذي ينتج السيرة الذاتية. يقول فليب لوجون للتدليل على صحة طرحه “ليست السيرة الذاتية نصا يحكيه شخص عن ذاته، بل هي نص يقوله -من خلاله- ؟؟؟”([iv]). وسبق له في كتابه “الميثاق؟؟ السيرذاتي 1975” أن شدد على ضرورة التمييز بين المشابهة والمطابقة. فإذ كان هناك من يرهن الكتابة السيرذاتية بوجود مشابهة بين الكاتب وقرينه (السارد/ الشخصية الرئيسة)، فإن همَّ فليب لوجون  انصب على إبراز بنود الميثاق السيرذاتي ومن ضمنها، تطابق المؤلف (الذي يحيل اسمه  على شخصية واقعية) والسارد؛ أي تطابق الهويات السردية للأطراف الثلاثة (الكاتب والسارد والشخصية الرئيسة).

علاوة على ذلك تعرضت الأيدولوجيا السيرذاتية إلى كثير من الانتقادات رغم أن أنصارها لم يكونوا سذاجا إلى درجة اعتبارها “نشرا للغسيل” أو “فضحا للأسرار، ومن بين الانتقادات الموجهة إليها صعوبة  قول الحقيقة بدعوى الرقابة التي يمارسها الكاتب على نفسه، واحترازه من إيذاء الآخرين، وتوجسه من المس بحياتهم الخاصة (مناطق الحساسية)، ولذا آثروا عليها الرواية والتخييل الذاتي لما يتيحانه من إمكانيات تعبيرية وطاقات تخييلية لقول الحقيقة دون خوف أو وجل. يقول جون بول سارتر -في هذا الصدد-: “لقد حان الوقت أخيرا لكي أقول الحقيقة، لكن لا يمكن أن  أقولها إلا في عمل تخييلي”([v]).

3- مغالطة القراء

يقول صاحب المقال بلغة ركيكة ومُثبَّحة “وإن كان محمد الداهي خلط بين الأنواع التي تنتمي إلى هذا النوع وبين أخرى تندرج تحت نوع السيرة الذاتية، فأدرج “سبعون” ميخائيل نعيمة، و”رحلة جبلية رحلة صعبة لفدوى طوقان.. وهو أمر صعب، لا يمكن تقبله بسهولة؛ فمجمل هذه الأعمال تناول المسيرة الحياتية بإسهاب شديد، وهو ما لا تلتزم به السيرة الفكرية”.

يبدو -من خلال هذا القول- أن صاحبنا ممدوح فرج النابي يهرف بما لا يعرف، ويصدر أحكاما على عواهنها، وينساق مع ريح أهوائه دون التحري في المصادر والمراجع التي ترد جزافا في كلامه. وقبل دحض مزاعمه ومغرباته أشير إلى أن السيرالذاتية الفكرية المذكورة أورتُدها على سبيل المثال لا الحصر كغيرها من الأمثلة عربية أكانت أم غربية، قديمة أكانت أم حديثة حرصا على استخلاص “النموذج البنائي”(Modèle structurel) الذي يمكن أن ينطبق على طبقة من النصوص تتقاسم السمات المشتركة، في حين لم يتطرق صاحب المقال بمكر أو جهل إلى الأعمال التي حللتها بصفتها عماد المتن المعتمد وقوامه، ومن ضمنها أذكر:  “المنقذ من الضلال” للغزالي، و”حي ابن يقظان” لابن طفيل، و”أنا” للعقاد، و”أوراق” لعبد الله العروي و”شارع الأميرات” لجبرا  إبراهيم جبرا. وأكتفي بمثالين دالين لتأكيد الخلط والالتباس الذي وقع فيهما صاحبنا من حيث لا يعلم.

أستشهد بداية بمقتطف من “سبعون”، يبين فيه ميخائيل نعيمة الأسباب التي جعلته يكتب في هذا اللون بالذات من الكتابة عن الذات، ويعلل أيضا ما حفزه على اعتماد “الحياة الفكرية” عوض        “الحياة الخاصة”. ويتضح من خلال هذه المقدمة ومجريات الأحداث أن ميخائيل نعيمة ركز على ما يمت بصلة إلى مساره التعليمي من خلال ثلاث مراحل، وهي: من الطفولة حتى نهاية الدراسة في روسيا، ثم من هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى حين عودته منها، ثم منذ عودته إلى الفترة التي باشر فيها كتابة سيرته الذاتية الفكرية.

“أعطيهم [القراء] من زاد قلبي وفكري، إذا ما خيل إلي أن فيه زادا صالحا لقلوبهم وأفكارهم. أما حياتي” الخاصة”: من أين أرتزق، وماذا آكل وأشرب وألبس، وكيف أنام وأقوم وأعمل. ومن هم أمي وأبي وإخواني وأخواتي، وأجدادي وأعمامي وعماتي، وأخوالي وخالاتي، وخلاني وأعدائي، وكيف عاملتهم وعاملوني، وماذا كان بينهم وبين نساء أحببتهن وأحببنني، وكيف ومتى حزنت وبكيت ومتى فرحت وضحكت. أما هذه الأمور كلها، وكثير من نوعها. فما ظننت يوما أن للناس أي نفع في معرفتها لذلك أهملتها الإهمال كله في كتاباتي.. لكن فضول قرائي -وهو فضول مغفور ومشكور- يأبى الاكتفاء بمشاركتي في حياتي الفكرية، إنهم يريدون أن يعرفوا التربة التي نبتت فيها هذه الأفكار، والأجواء التي فيها تبلورت، والأسس التي تقوم عليها، والعقبات التي واجهتها وذللتها، والتي واجهتها ولم تذللها بعد. وإلى أي حد تساير حياتي أفكاري. وإلى أي حد تغايرها”([vi]).

تميز فدوى طوقان -في سيرتها الذاتية الفكرية ( الجزء الأول)([vii])- بين “مغامراتها الصغيرة” التي تهم بداية اكتشافها الحياة الخارجية، ولا تستوعب إلا صفحات معدودات، و”مغامراتها الأدبية” التي تبين من خلالها كيف تورطت وانغمرت في عشق الشعر خصوصا وحب الأدب العربي عموما.  تدور “المغامرات الصغيرة” حول وقائع بعينها عاينتها الطفلة فدوى في قلب نابلس (معاينة تأسيس الحركة القومية العربية، شعورها بالتذمر من جراء سخرية الآخرين من شحوبها المرضي، امتعاضها من موت ابنة عمها “شهيرة” بسبب داء الروماتيزم، مصاحبة علياء وأمها إلى المزارات ومقامات الأولياء والدراويش) في حين تدور “المغامرات الفكرية” التي تتقاطع مع نمو الذات ومجريات التاريخ الفلسطيني المعاصر. وفي مقدمة المغامرات التي اكترثت بها بيان العوامل التي أسعفتها على نظم الشعر، وجعلتها تندفع بكل أحاسيسها إلى ولوج مملكة الأدب الفيحاء. أكرهها أخوها يوسف على ملازمة البيت والانقطاع عن الدراسة بسبب تورطها في شبهة الحب. وجاء الفرج على يد أخيها طوقان الذي عاد إلى نابلس من الجامعة الأمريكية لممارسة التعليم، فبدأ سطر جديد في حياتها، إذ شد أخوها من أزرها، وقوى عزيمتها، وحفزها على نظم الشعر وتحسينه، وشجعها على قراءة مؤلفات سلامة موسى وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني. وكبر فضولها بمرور الزمن لاكتشاف عالم الشعر الرحب وخاصة ما نظمه الشعراء المحدثون، إلى أن وجدت ضالتها في شعر التفعيلة الذي دشنته نازك الملائكة، لما يتيحه من إمكانات للتحرر من القيود العروضية. وعلاوة على مواكبة الشعر ونظمه وجدت في الرواية حصيلة معرفية ثرَّة، من فكر وشعر وفلسفة وتحليل نفسي. ومن يتابع المسار الفكري لفدوى طوقان يُفاجأ بقوة شخصيتها، ومتانة طموحها، وحصافة عصاميتها لتخطي الصعاب وصعود الجبال. فلم يمنعها الحرمان من الدراسة الأكاديمية على إدمان القراءة، وتنمية قدراتها الثقافية. “أنا أقرأ فأنا موجودة. ظللت قارئة شرهة. وقد نمى هذه الشراهة حرماني من الدراسة الأكاديمية. فالإنسان الطموح يظل ينطوي على مرارة مصدرها الفراغ الذي يتركه في النفس الحرمان المبكر من المدرسة. هناك يتحول إلى (دودة الكتب)”([viii]). ومن أجمل اللحظات الفكرية والثقافية في حياتها ما عاشته في انجلترا (وخاصة بين أروقة جامعة أكسفورد العريقة ومدرسة سوان) في ضيافة أخيها فاروق أواخر مارس من عام 1963. وقبل مجيئها إلى أكسفورد التي قضت فيها ما ينيف على عشرة أيام تلقت من أخيها رسائل في غاية الأهمية لأنها تكشف عن انشغالاته الثقافية وعن التكليفات والأبحاث التي ينبغي له أن ينجزها في مشواره الجامعي.

4- الذات بين الوجود والإيجاد

وعندما يتناول ممدوح النابي السيرة الذاتية الفكرية لبنسالم حميش “الذات بين الوجود والإيجاد”، يكتفي بنتف منها مما يبين قصر نظره أو اكتفاءه كعادته بقراءة ما يكتب عن الكتب عوض قراءتها وهذا أحد الأسباب التي أدت في نظر نزفيتان تودورف إلى تأزيم الأدب (الأدب في خطر) بسبب تهافت أشباه القراء عليه دون دراية بمشاقه ومصاعبه وفق المثل السائر (المية تكذب الغطاس). وبالمناسبة إن القارئ الحقيقي هو من يقرأ المعلومات في مظانها ويثير نقاشا حولها لفهم الوضع الإنساني عوض أن يتحول إلى قارئ مختزل أو حسر البصر أو مرمق أو تقنوي. فصاحبنا مر مرور الكرام على صفاحات الكتاب دون أن يفهم محتوياتها، ويضعها في سياقها الطبيعي، ويتعقبها بتأن وترو. فهو مثلا لم يستوعب مرامي بنسالم حميش من مساءلة المشروع السيرذاتي في المقدمة. أهو مع دعاة الإيديولوجيا السيرذاتية أم من مناهضيها؟ أ هو ممن يبجلون الذات أم ممن يستكرهونها أو يمقتونها سيرا على نهج بليز باسكال؟  أشار صاحبنا -في لمح البصر- إلى طفولة حميش دون أن يتوقف عند ميعة المراهقة والشباب وخاصة مرحلة النضج التي استأثرت بحصة الأسد في الكتاب، لأن بنسالم حميش كان يستعجل القلم للوصول إليها حرصا منه على بيان كيف أضحى علما يشار إليه بالبنان في الفلسفة والرواية والسجلات الأدبية. يكتفي صاحبنا-لنزقه وضعف عدته النقدية والشعرية- بتلخيص العمل بشكل مبتسر ومربك عوض أن يحلله بأدوات نقدية سعيا إلى مناقشة القضايا الآتية التي تناسب خصوصيته: لماذا غلب حميش الميتاتخييل على السرد؟ ولماذا لم يتوسع في “محكي الطفولة والمراهقة” وكرس معظم الكتاب لمرحلة النضج؟ ما الأسباب التي جعلته يؤثر “النرجسية السردية” بحسب لندا هتشون Linda Hutcheon؟ ويغلب في الآن نفسه الإحالية الذاتية (Autoréférentialité) على حبك قصة محتملة الوقوع؟ ولماذا باشر كتابة سيرته الذاتية الفكرية بعد إصدار ثلاث عشرة رواية لحد الآن؟

ومما يبين أن صاحبنا يعمم الأحكام دون تحرّ، ويقرأ الكتاب -إن قرأه فعلا- على عجل، أذكر على سبيل المثال لا الحصر: يقول إن حميش يدين للعروي بالتلمذة الجامعية في حين يغفل فضل محمد عزيز الحبابي وحسن المنيعي وعبد الكبير الخطيبي وماكسيم رودنسون عليه، ويدعي أن كل المعلمين الفرنسيين كانوا عنصريين واستعماريين في حين يشيد حميش بالدور الإيجابي لبعضهم. “أما في سنة البكالوريا اللاحقة فقد اكتشفت ميولي الفلسفي بفضل أستاذين فرنسييين كوكس ولومير، إذ  كانا  يقرآن على التلاميذ إنشاءاتي للتمثيل بها والاقتداء”([ix]).

ويقول في نهاية مقاله كلاما غريبا يبين سجيته وطبعه من جهة واستعلائيته من جهة ثانية (التحدث بصيغة الوجوب والإلزام). “تماثل الحاجة إلى كتابة السيرة الفكرية الحاجة إلى كتابة السيرة الذاتية لما فيها من نفع للدارس والباحث معا، لكن على الكتاب أن يخففوا من نبرة الأنا، والافتخار بتخطي الصعاب، فهذه أشياء لا حاجة للتنويه بها، بقدر ما يستخلصه القارئ بنفسه، وأيضا الابتعاد عن تلخيص كتبهم، وإنما الاكتفاء باستعراض دواعي الكتابة والمناهج المستخدمة، لأنها أفيد للقارئ”. فهذا الكلام وغيره يحتاج -علاوة على إعادة الصياغة حتى يستقيم المعنى- إلى مراجعة جذرية لأن صاحبنا يخوض في أشياء بنوع من العبث واللامبالاة متوهما أن كل من يكتب على الانترنيت فهو كاتب أو ناقد معتمد، وأن كل ما ينشر أمر سائغ وعملة متداولة، ويتناسى أن هناك “مؤسسة أدبية رقمية” محترمة تحرص على تمييز الجيد من الرديء، وأن مئات من المبحرين يتابعون ما ينشر بروح نقدية، ويغربلونه لاستبعاد الحسافة عنه، والاقتصار على الثمر أو حب القمح الجيد.

5- السيرة الذاتية الروائية

يشير محمود النابي-في بداية مقاله- إلى السيرة الروائية دون أن يُعرِّف بها، أو يقدم مثالا عنها، أو يوحي على الأقل بأنه يتحرك في مجالها النقدي الذي يؤطرها. يورد هذا الكلام الفضفاض الذي تلتبس فيه المفاهيم: (“رواية السيرة الذاتية”، ثم يقول في الفقرة نفسها: “رواية السيرة” دون أن يعلم أنه ينتقل من نوع أدبي إلى آخر). من جهة أخرى، يطلق الأحكام جزافا. فكل الأعمال الأدبية تتخذ الخيال-بدرجات متفاوتة- قناعا ما دامت تنقل بالوساطة اللغوية، وكم ردد رولان بارث على مسامعنا أن “اللغة لا تنسخ الواقع”. وكان حريا بمحمود النابي أن يعود إلى المصادر أو المراجع التي تعني بالتعريف بهذا النوع من الكتابة عن الذات؛ أي السيرة الذاتية الروائية. ومن ضمنها الكتاب الكلاسيكي (الميثاق السيرذاتي) لفليب لوجون الذي ميز بين الرواية والسيرة الذاتية باعتمادهما على ميثاقين متباينين (الميثاق الاستيهامي والميثاق السيرذاتي)، ومؤلفات فليب كاصباريني الذي تخصص في تمييز السيرة الذاتية عن الأنواع المتاخمة لها والملتبسة بها (وفي مقدمتها التخييل الذاتية والسيرة الذاتية التخيلية، والرواية السيرذاتية)، وأحيل صاحبنا  إلى الجدول التوضيحي([x]) الذي أورده الباحث نفسه لإبراز مميزات الرواية السيرذاتية، ويمكن أن أجملها فيما يلي: الهوية الاسمية للكاتب/ السارد اختيارية (جزئية في غالب الأحيان، وتامة أحيانا)، تكون باقي عمليات تحديد الهوية ضرورية، تلتبس الهوية التعاقدية أو التخييلية (محتمل الوقوع) لاتسامها بمؤشرات متناقضة.

أكتفي بهذا القدر رغم أن المقال كله يحتاج إلى مساءلة ومراجعة لتضمنه معلومات مغلوطة وانطباعات متسرعة. وليس هدفي من إثارة هذا النقاش معه التنقيص من قيمته وصيته، بل أردت أن أدعوه إلى التحلي بمزيد من المسؤولية فيما ينشره حرصا على نقل المعلومات وتحليلها بأمانة ونزاهة. فهو بهذا الصنيع قد يجني على كثير من الطلبة الأبرياء الذي يحصدون كل ما يجدونه أمامهم، وينبهرون به دون التحري في صحته وملاءمته وجدواه.

 

 

 

[i]– طه حسين، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، المجموعة الكاملة، العدد الثامن (علم الاجتماع)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ترجمة محمد عبد الله عنان، ط2، 1975، ص14.

[ii]– Philippe Lejeune, écrire sa vie, éd. Méconduit, 2015, p17.

[iii]– للتفصيل عد إلى ما كتبته عن طرح ماري داريوسيك (Marie Darrieussecq) في كتابي: الحقيقة الملتبسة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص161.

[iv]– Philippe Lejeune, écrire sa vie, op., cit, p17.

[v]– Interview accordée à Michel Contact, Nouvel Observateur, n°23 juin 1975.

[vi]– ميخائيل نعية، سبعون حكاية عمر، ج1، مؤسسة نوفل، بيروت، ط5، 1977، ص ص9-10.

[vii]– فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، سيرة ذاتية، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط2، 2005.

[viii]– المصدر نفسه، ص153.

[ix]– بنسالم حميش، الوجود والإيجاد، سيرة ذاتية، المركز الثقافي للكتاب، ط1، 2019، ص19.

[x]– Philippe Gasparini, Est-il je? Roman autobiographique et autofiction; éd. Seuil,2004, p27.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى