البنية الشكلية ومسارات النص قراءة في نص (بهلوان العمر) للشاعرة المغربية خديجة العلام
انفاس بريس 24 : أمجد نجم الزيدي
لكل نص مهما كان جنسه او نوعه ايقاع، يبنى عليه النص، لتتكون مجموعة من العلاقات التي تشكل مساراته، او الانساق التي ترسم خطابه، وربما يتفرد الشعر، وخاصة قصيدة النثر الحديثة، بانها تحاول ان تختط لها مسارات بنائية تساعدها على ايجاد ايقاع داخلي للنص، ليس مجرد لعبة شكلية، وانما يدخل في صميم بناء النص وتكوينه، لذلك فان الاشارة الى هذه المسارات تبني للقارى رؤية ما، او تفتح نافذة لكي يطل منها على النص وثيمته، ربما يرى بعض القراء ان الثيمة ودلالاتها مقصية عن هذا التحليل، وربما ايضا المعنى الذي يحاول الشاعر/ الناص ان يقدمه في نصه، ولكن الانشغال هذا الا يعني ان الثيمة غائبة بصورة كلية عن التحليل بقدر ما اننا سنجترح لها مسارات بنائية، نترك للقارئ مساحة ليعبئها بتلك الثيمة او دلالاتها المقترحة، وهذا ما سنفعله في تحليلنا لنص الشاعرة المغربية خديجة العلام (بهلوان العمر).
يبنى هذا النص على لعبة تداخل الازمنة ان كانت بصورة صريحة او من خلال الدلالات الدالة عليها، حيث ان هناك زمن يجمع النص باطار تنبؤي يرتكز على الزمن المستقبل، من خلال سين الاستقبال (سنعود)، ولكن يخترق هذا الزمن وشبكته التي يجمع بها دلالات النص زمن اخر، هو الزمن الماضي، والذي لم يكن ظاهرا بصورة صريحة، اي لم يبني افعال النص التي كانت اغلبها افعال مضارعة، بل من خلال الاحالات الدلالية، التي ربما توحيها كلمات مثل (ذكريات) وغيرها، والتي تحيل من طرف غير مباشر الى افعال واحداث وقعت في غير الزمن المهيمن على النص، ومن خلال لعبة الازمنة هذه، تتحقق حركية النص، وتبدأ دلالاته ببناء شبكة من العلاقات في المقطع الاول على أقل تقدير.
سنعود هذا المساء
على وقع حوافر الصهيل
ترافقنا الذكرى
لون النبض أحمر
لا تسأل عن
قضايا الأمس المثيرة
ولا عن أحلام الغد المؤرقة
نلاحظ هنا ان النص قد ابتدأ بفعل يدل على المستقبل (سنعود)، أي ان كل الافعال وما سيحدث داخل النص سيتم في المستقبل، بعد ان يتحقق فعل العودة، وسنلاحظ ايضا ان هذا المستقبل سيحمل حمولة من دلالات تشير الى الماضي، والتي ربما سيدخل زمن كتابة النص ضمن هذه الاستعادات الماضوية، بعد ان يتحقق فعل العودة كما اسلفنا، أي ان النص برمته سيصبح جزءا من (الذكريات) او (قضايا الامس) دلالات الماضي، التي قوضت هيمنة فعل المستقبل، رغم ان جمع الدلالات تشير اليه والى المسار الذي يبني علاقات النص (ولا عن أحلام الغد المؤرقة)، أي انه جعل الامس والغد ضمن مسار دلالي واحد مرتبط بالفعل المضارع (تسأل)، اما ما كان يحكم هذا المسار وجمع الضدين (الامس والغد) هو (لا الناهية)، ولكن الفعل الدال على المستقبل (سنعود)، هو بالحقيقة نقلة واحدة في الزمن، حيث ان اللوحة المستقبلية هذه لا تحتم فعل الاستمرار في تلك العودة، أي انطلاقها كفعل مستقبلي دائم الحركة، وانما ستتوقف هذه العودة في نقطة معينة وهي (هذا المساء)، والتي ستثبتها في هذه النقطة المحددة هي مرساة الماضي وذكرياته، من خلال تجريدها من حمولتها الزمنية المباشرة، واعتبارها متاعا ماضويا، يهيمن على دلالات النص، أي ان هذه اللعبة وان بدت ظاهريا لعبة تداخل للأزمنة (ماضي- مضارع- مستقبل)، الا ان دلالة النص الباطنية او المضمرة تظهر ان التداخل هنا تداخل دلالي مرتبط بالزمن، بالإشارة الى ان الحمولة المعرفية وما يبني كيان (انا النص) داخل الزمن؛ هو مركب متكون من الأزمنة الثلاثة، اذ يكون الماضي هو المتاع، والمضارع الفعل، والمستقبل هو التطلع أو النظرة الى الامام.
وحده الليل سيد المكان
يوزع فينا أدوار مسرحية
تنعشنا رائحة القهوة وكعك أمي المدهون بالحنان
وبعض من زيتها الساخن على نار شغبي
سأدير وجهي وأغمض عيني
الجار يفتش تحت الانقاض عن حلم
عن ذكرى
وكما نلاحظ في هذا المقطع ايضا يستمر النص في بناء دلالاته وفق الترسيمة التي وضعناها له والتي وضحناها سلفا، اذ يأتي هذا المقطع متمما ومكملا، ويلعب على نفس البنية الشكلية السابقة، ولكن ما يأتي بعد هذا المقطع الى نهاية النص؛ يختلف من حيث البناء عن الجزء الاول، اذ يستبدل اولا (نحن) بـ (انا- انتم)، اذ ان خطاب هذا الجزء موجه من (انا) المتكلم الى (انتم) الغائبين، وهذا الافتراق بين جزئي النص؛ أي المقطع الاول الذي حللنا بنيته الشكلية سابقا، وهذا المقطع يرينا ان الزمنين المهيمنين على المقطع الاول وهما (الماضي والمستقبل)، يقل حضورهما في هذا الجزء، ولكنهما ضمنا موجودين يغذيان دلالات النص.
أيها المطر كن رحيما بمن سكنوا ظلك
ووزعوا خيوط العنكبوت غذاء
وادخروا دموعهم لمواسم الشتاء
أيها الغجري لا تسال عن فستان الراقصة
ولا عن بهلوان يمسك فينا هواء الصمت
لا تسالني عمن انا فقد اضعت هويتي بين الحزن والجراح
لم اذكر من تاريخي سوى وشم رسمه الليل على قلبي
حيث نلاحظ اختفاء تلك اللعبة الزمنية من هذا الجزء، اذ اصبح (انا النص) هو المهيمن، الا ان تلك الانا ان ارادت ان تغادر صومعتها، تحتاج الى الزمن الجمعي ان يجرفها بتياره، فلا حركة لتلك الانا الا في المجموع، الذي هو الزمن.
تعالوا ايها العابرون
نخلع وجوهنا
نلملم ما تبقى من العمر
لنسافر مع الصبح
نقترف الحب في الموت
ننخر عباب العمر
نسجل للتاريخ خطايانا
عسى السماء تجود بنبي يكسر
قطار الحزن الواقف فينا.
نلاحظ اذن ان الشاعرة العلام قد بنت نصها هذا على رؤية ترى ان (الانا)، من دون النظر الى كيانها المعنوي داخل النص، وانما باعتبارها بنية شكلية، لا يمكن ان تنفصل عن الذات الجمعية (نحن)، المحركة للزمن، ولكن هذا لا يعني ان تلك الانا ذابت وفقدت كيانها، وانما حافظت على نفسها كمحركة لهذا الزمن وبانية توقعاته، فقد انطلق النص من بنية جامعة ووجد له مسارا فرديا، في تشكيل المواقف الشخصية، بغض النظر عن الثيمة التي ابتنى عليها النص، فالتركيز هنا جاء على البناء الذي غلف تلك الثيمة والمسارات التي فتحها، لتتشكل علاقاته.