وقوع سمسار المحاكم !
انفاس بريس 24 : اسماعيل الحلوتي
مساء يوم الخميس 14 نونبر 2019 انتشر بين المغاربة بسرعة البرق وعلى نطاق واسع في مواقع التوصل الاجتماعي، شريط فيديو يوثق لعملية سمسرة حول تخفيف حكم قضائي أو إلغائه لفائدة سجينة، مقابل مبلغ مالي حدد في 35 ألف درهم، يظهر فيه شخص يدعى “عادل” مكشوف الوجه يفاوض امرأة داخل سيارة بلغة مباشرة وواضحة. اضطرت معه النيابة العامة إلى التفاعل إيجابيا مع فحوى الشريط المصور وإصدار تعليماتها للشرطة القضائية، التي بادرت على الفور إلى إجراء بحث دقيق انتهى بوقوع “السمسار” في قبضتها.
وهي الفضيحة التي خلفت وراءها ضجة عارمة وردود أفعال ساخطة، حيث تعالت أصوات التنديد والاستنكار، تطالب السلطات المعنية بالتدخل لاتخاذ ما يلزم من عقوبات صارمة في حق المتورطين، حتى يكونوا عبرة لكل المفسدين ومنعدمي الضمير. وهو ما ذهب إليه نادي القضاة بالمغرب، الذي لم يتأخر بدوره في إصدار بلاغ للرأي العام الوطني، يؤكد من خلاله على أن الشريط المتداول بين الناس يضرب في العمق مصداقية العدالة ويمس بسمعتها، سواء كمؤسسة رسمية أو هيئات جمعوية أو أفراد، ويصر على ضرورة التعجيل بفتح تحقيق والكشف عن ملابسات النازلة ومحاسبة كل من له يد فيها.
وبصرف النظر عن طبيعة القضية موضوع “السمسرة” والرائجة أطوارها في المحكمة، ومدى ملاءمة العقوبة الحبسية المصرح بها في الشريط مع القانون الجنائي المغربي، ولا من يقف خلف السمسار ويسخره لهذه الأغراض الدنيئة، فإن ما يهمنا هنا والآن هي هذه الصفعة القوية الموجهة للقضاء، الذي تعفن بفعل ممارسات ة بعض الدخلاء المنافية للقانون، والتي أحيت النقاش من جديد عن واقع الفساد والرشوة داخل سلك القضاء. إذ لم يمر وقت طويل عن معاقبة عدد من القضاة في السنوات الأخيرة، بسبب قضايا مرتبطة بالانحراف والرشوة والفساد والإخلال بالشرف والوقار وعدم إعطاء مبررات مقنعة عن مصادر الثروة ومخالفات مهنية وسلوكية وعدم الالتزام بمبادئ النزاهة والحياد…
فالقضاء الذي يفترض فيه أن يكون رافعة أساسية لتنمية المجتمع وضمان رقيه وازدهاره، باعتباره إحدى أرقى الوظائف الإنسانية في العالم، والملاذ الآمن الذي يمكن للمواطن الاحتماء به من أجل الحصول على حريته وحقوقه المشروعة، ورفع الظلم عنه بردع الظالم والمستبد، بات فساده اليوم حقيقة مرة لا يمكن لأي كان حجبها مهما حاول ذلك جاهدا، لاسيما في عصر الثورة التكنولوجيا وتعدد وسائط الاتصال، وأصبحت محاكمنا للأسف الشديد سوقا مفتوحة تباع فيها الأحكام لمن يدفع أكثر ضد القانون. فأين نحن من قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: “وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل”؟
إن نشر شريط سمسار الأحكام القضائية، يعتبر بمثابة هبة ريح أزاحت الغبار عن ملف ثقيل لم ينفك يؤرق المواطنين ويقض مضاجعهم وخاصة المتقاضين منهم، الذين تقودهم الظروف مكرهين إلى ردهات المحاكم، لما يتخلل قطاع القضاء برمته من أعطاب عديدة ومتنوعة تضر بمصالح البلاد والعباد. فما حدث ويحدث يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن “محاربة الفساد” ليست سوى شعارا براقا تستغله الأحزاب السياسية وفي مقدمتها الحزب “الحاكم” العدالة والتنمية، في حملاتها الانتخابية لدغدغة العواطف واستمالة الناخبين. ولا أدل على ذلك أكثر من التقارير الرسمية للمنظمات والهيئات الوطنية والدولية بما فيها منظمة الشفافية الدولية والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة وغيرهما كثير، التي تشهد جميعها بواقع الفساد ببلادنا واحتلالها الرتب المتدنية في مؤشرات التنمية ومحاربة الفساد، حيث لم يعد هناك قطاع يخلو من آثار هذه المعضلة الخطيرة التي تعطل مسار التنمية وتحول دون جلب الاستثمار.
فالرسول الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال: “القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة”، مما يثبث إلى أي حد أن مهنة القضاء ذات شأن عظيم ومن أنبل المهن في التاريخ الإسلامي، وأن ولاة الأمور كانوا شديدي الحرص على تعيين الأصلح والأعلم والأتقى، تفاديا لما يمكن أن يحدث من انزلاقات ومخاطر في حال تولي المنصب من هو فاسد وغير مؤهل لأداء الواجب على أحسن وجه. فأين نحن من أمر الله وحديث نبيه الكريم عن إقامة العدل، والدراسات الميدانية تثبت بأن قطاع العدالة ببلادنا هو الأكثر ارتشاء، في الوقت الذي يستوجب أن يكون الأكثر تصديا لجميع أشكال الفساد والضرب بيد من حديد على المفسدين والخارجين عن القانون كيفما كان شأنهم؟
إن من بين تخلف وفساد المنظومة القضائية ببلادنا، أنها تفتقر يالأساس إلى تلاثة عناصر أساسية: الاستقلالية والنزاهة والكفاءة. وهو ما يستدعي أن تقوم الحكومة بمبادرات عملية عاجلة في اتجاه تخليق القطاع وتوجيه ممارسات القضاة بما يتناسب مع معايير الأخلاق وطنيا ودوليا، والسهر على إلزام القضاة بالتصريح بممتلكاتهم من أجل تكريس سلوك قضائي متميز ورفيع، وتحقيق قضاء عادل وقوي ونزيه وشفاف ومستقل، يصون حقوق المواطنين. فالعدل هو أساس الحكم، وبتطبيق القانون وإحقاق الحق في آجال معقولة وبدون تلكؤ أو تباطؤ، تطمئن النفوس وتستقر حياة المجتمع وجميع أفراده.