امتدادات قصيدة الملحون الثقافية والفنية من خلال كتاب : ( القصيدة ) بقلم : د . مولاي علي الخاميري
بقلم : د . مولاي علي الخاميري
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب – الجديدة
معظم الذين كتبوا عن الأدب الشعبي عموما والملحون على وجه الخصوص من جـــيــــل الأستاذ عباس الجراري تحكمت فيهم معطيات كثيرة ، أبرزها هنا البعد الذاتي الملاحظ في معالم سير أفراد الجــــيــــل المذكور من خلال مجموعة من عوامل التربية ، والوسط ، والأسرة بالإضافة إلى درجة العلم التي صار إليها هذا الرعيل الأول من المثقفين ، يقول عباس الجراري في مقدمة كتابه : ( وكانت رغــبــتــنا ملحة وأكيدة حين عزمنا على اختيار موضوع لرسالة الماجستير أن نـــتـــناول جانبا من الأدب الشعبي ، وهو أدب يغرينا ويجذبنا إليه فنحس له ميلا غير قليل ، فقد رافقنا رفقة عمر منذ عرفناه ترنيما في المهد ، لا ندركه ولا نعيه إلى أن طربنا له واعين روعته ومدركين جماله فأحببناه وغدونا من حبه نشعـــر بمزاج متجاوب معه ، ومنسجم بالطبيعة والسليقة دونما تكلف أو تصنع ” 1 ” ) .
ولعل هذا النص إن تفحصناه جيدا سيزودنا بمجموعة من الأجوبة عن تلك الأسئلة الحارقة التي صاحبت الأدب الشعبي وعلى رأسه الملحون ، وسببت ولا زالت تسبب حيرة للدارسين العارفين بقيمة ذلك الأدب وقيمه المختلفة ، فمن لا يتعرف على الأدب السالف ذكره في أسرته لن يكون من السهل عليه اكتشاف مدخراته الفكرية والفنية حتى ولو كان على قدر عال من الثقافة ، ثم إن الأدب الشعبي لا تـــكــــفي فيه المعرفة المدرسية المنتشرة في الوسط التعليمي ، بل لا بد له من روافد مختلفة تدل عــــلى الــتـــوســع والارتواء ، ولهذا وجدنا من يستهزئ به ، ومن يتكبر عليه ، ويتبرم منه وإن كان في مضامينه وجمال فنه يقدم أروع صورة وأكملها على ما يصطلح عليه بالشخصية الوطنية في امتداداتها الـــثـــقـــافــيــــة والإبداعية .
وما دمنا في المقدمات العامة لهذه المداخلة سنشير إلى بعض الامتدادات الثقافية الملاحظة على قــــصيدة الأدب الشعبي في عموميتها وتجلياتها ، وأقصد هنا نوعين اثنين هما :
1 – ما أسميه بثقافة المكان : ونعني به الــتــمدد الذي يوازي المكان في تــــعـــدده واختلافه ، ونحصل بواسطته على مفاهيم متعددة مثل الغنى ، والتنوع ، وملاءمة الظاهرة الإبداعية لمكونات المكان البشرية والطبيعية ، يقول الجراري عن فن ( العيطة ) : ( …..والعيطة نوعان ملالية ومرساوية ، أما الملاليــــة فمكانها بني ملال والجبال المجاورة لها ، وبعض النواحي من تادلا ، ونغماتها دائما في غــاية الـــعـــلــو والارتفاع شبيهة بصياح الندب والبكاء ، والألفاظ المستعملة فيها في الغالب بربرية…….وأما العــيــطــة المرساوية فإنها بخلاف ذلك تماما ومكانها بسائر قبائل العرب المتمدنة ، وهي تفوق الأولى في كثير من المواد والتأثير كما أنها أجملها فــنا وألطفها صناعة ، وكـــثــيـــر منها بقبائل الحوز كعـــبــــدة ودكــــالة والــرحامنة ” 2 ” ) .
2 – ما أسميه بثقافة النوع : وهي نتيجة حتمية ومسايرة لمعنى التنوع والغنى ، وتدل عــــلى نشاط الإنسان الفني المتواصل انطلاقا من مكانه المعيشي والبيئي ، يقول الجراري عن فن ” الطقطوقة ” : ( وهي عبارة عن مقطوعة تتكون من عدة مقاطع يتركب كل منها من بيتين بقافية واحدة ، والغالب أن تختلف المقاطع فيما بينها تقفية ومعنى ” 3 ” ) .
نلاحظ هنا أن تتبع الأستاذ الجراري جمع بين المكونات المختلفة على مستوى اللفظ ، والنغم ، والألفاظ ، والجمال……وهذا يدل على فسحة المكان وتجاوب الإنسان معه فـــنيا مع مراعاة طبيعة الامــتـــداد في الوجود والاختلاف ، كما يدل على الاهتمام بالعناصر الأصيلة في كل منطقة أولا على أن تأتي المرحلة النهائية وهي مرحلة الاندماج والانصهار والتفاعل والتكامل من أجل تأسيس مضمون ثقافي وفني لمعنى الوطن في فسحته ومضامينه .
3 – وهناك نوع ثالث من الامتداد العام يجمع فيه ما بين الأدب الشعبي والأدب الــفـصيح ، ونعـــني به أولئك الشعراء الذين نظموا على الطريقتين المذكورتين ، وكانوا فيهما من البارعين وإن رصت شهرتهم في النهاية على المنحى الشعبي ، وقد صرح الأستاذ عباس الجراري في كتابه ( القصيدة ) بـمـثـــالــيــن واضحين ، الأول عندما تحدث عن الحاج ادريس بن علي السناني الحنش فقال : ( وله كذلك ديوان مـــن الشعر المعرب أسماه الروض الفائح بأزهار النسيب والمدائح ” 4 ” ) والثاني في وقـــفـــتــه مع الشاعر التهامي المدغري حين قال : ( ولم يكن المدغري ينظم في الزجل فقط ، وإنما كان يــــنــظـــم في الشعر المعرب كذلك………هو الشاعر المفلق الحائز لفصاحة المغرب والمشرق ، ملحونه من الهموم يبري ، وموزونه على أبحر الخليل يجري ، هو والله واسطة عقد الدهر في صناعة الشعر الملحون والموزون ، كان بهما يسلي قلب المحزون ” 5 ” ) .
وكما قـــلت فالاشتغال بالمنحــيــيــن الفصيح والشعبي يعني القدرة والثقافة الواسعة لدى الشعراء الذيــن اشتهروا بالقول في المنحيين ، ولكن عندما يتم البروز في المنحى الشعبي فهذا يعني الاختيار الصائــب بالنسبة للشاعر ، ويعني كذلك الموقف الفني الذي يرى في الأدب الشعبي مالا يراه في الأدب الفصيـــح على مستوى النفس ، والميول ، وقوة الإيضاح ، وتحديد المخاطب في عموم الناس وأكثريتهم ، وربمــا نعني كذلك الملاءمة والتلاؤم مع الطبائع المتحكمة في منابع الإبداع بصفة شمولية .
ولا علينا الآن فنحن نهتم بإبراز الظاهرة للقارئ الكريم حتى يتمكن هو نفسه من الخوض في الموضوع والقياس على ما قلناه بأسس علمية واضحة ، تبتعد عن التعصب ، وتبتغي العلم والإنصاف ، فــنحن في النهاية أمام ظاهرة موجودة ومتشابكة ومستفيدة من التداخلات الفكرية والفنية الممكنة .
ومعالجة موضوع الامتدادات الثقافية والإبداعية في الشعر العامي يستوجب منا أن نــتـــعــــرض لطبيعة المضامين ، ولن نقف فيها على عتبة الأسماء والمواضيع المستعملة ، وإنما سنحاول أن نقف وقفة متأنية مع مجموعة من المعطيات الفكرية ، شكلت أفقا عريضا وكبيرا لمفهوم الامــتـــداد بمعانيه الــثــقــافـــيـة والإبداعية ، وحتى لا نتيه في كثرة المضامين اخترت أن أقف مع موضوع المرأة كما جـــلاه لنا الأستاذ عباس الجراري في كتابه ( القصيدة ) .
موضوع المرأة كما تبلور في شعر الملحون ينقسم في نظري إلى قسمين كبيرين : قسم اتخذت فيه المرأة موضوعا بالمفهوم العام القائم على التقابل الموجود بين الرجل والمرأة في مناحي عـــديـــدة مـن الحياة ، وقسم ثان تحولت فيه المرأة إلى رمز للحديث عن ظواهر المجتمع المختلفة كما سنرى ذلك من خــــــلال الأمثلة القادمة .
– الــقســم الأول : نستطيع هنا أن نـأتي بمجموعة من الوقفات التي تجمع بين الرجل والـــمرأة داخــــل معترك الحياة ولكنني سأختصر الموضوع هروبا من التطويل ومن الوقوع في ظاهــــرة السرد المملة ، وسأقف على مضامين العناوين التالية :
1 – موضوع الجمال : وقد شكل مجالا خصبا للتباري بين مختلف الشعراء ، فكثرت بسببه الأسماء ، وشحذ من أجله الخيال ، ولهجت بذكر محاسنه كل الاسئلة ، وتمددت فيه الثقافة ، وتداخـــلت معالمها المتنوعة ، يقول الجراري في حيز الجمال : (…….تناول شعراء الزجل جمال محبوباتهم على حد ما يعرض لنا الجيلالي امثيرد في ” خدوج ” فهي بديعة الجمال ، رقيقة الملامح ، وهي فاضلة وعاطفة ، ذات حسن جميل ساطع ، ليست لها مثيلة في بنات جيلها ، يوافقها خليلها وتوافقه في طاعة مــتـبادلة : خدوج ابديعت لجمال………….خدوج ارقيقت لحروف
خدوج امنارت لفضال………….خدوج انهايت لعطوف
خدوج ما لها امثيل……………في بنات اليوم ابلجميع
اخليلا رايما اخليل…………..طاعا وخليلها امطيع ” 6 ” )
2 – موضوع الشكوى : ومعناه إحداث مجموعة من التغيرات السلبية على طبيعة الإنسان بسبب العلاقة الجامعة بين الرجل والمرأة في امتداداتها النفسية العميقة ، فشاعـــر الملحـــون ابن سليمان كما يـــقـــول الجراري : ( يشكو السهر والقلق ، ونار خدوج وسلطانها الذي سل عليه الحسام فأحس بالفالج يــــشلــه :
نارك فالقلب تروج
وخيالي ما يخفاك عن امهاجي
سهران طول داجي
واعييت ما نراجي
اهواك صاك لي سلطان احريج
زادني فالخاطر تهجيج
سال احسامو للتوديج
سرت مفلوج من زينها المفلوج ” 7 ” ) .
3 – موضوع إرسال المبعوث : وهـــو مــوضــوع عريض وطويل في شعر الملحـــون ، وله امتدادات وتجليات عديدة ، وما يهمنا منه هنا هو ما يلائم العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة ، وما تـــمخـــض عنه على مستوى الاستحداث ، وتطور قصيدة الملحون بصفة عامة ، يقول عباس الجراري عــن الاجتهادات الجديدة : ( وقد أطلق الشعراء ” اسم المرسول ” على القصائد التي تحكي ذلك ومن أروعها مـــرســــول الحاج أحمد الغرابلي الذي بعثه من مراكش إلى فاس بعد أن أخذ منه العهد أنه سيحضر له محبوبته ، ولكنه عاد بمفرده ، ولم يحقق الغاية من سفره ، فأسقط في يد المحب ، وتاه عن عقله ، وانهمــــرت دموعه……..” 8 ” ) .
وهكذا يدور شاعر الملحون منقبا في نفسه عن أثر الوقائع القائمة بين الرجل والمرأة ، اتـــخـــذها متكأ للتعبير الصافي ، والبناء السامي الجامع بين عناصر عديدة ، فقد رأينا طبائع الرجل والمرأة ، ورأيـــنا المعاني تتقلب وتتغير تبعا للنفس المتحكم في عملية النسج ما بين الفرح والحزن ، والإقدام والإحجـام ، والسلب والإيجاب ، ورأينا العناصر المساعدة تعمل وتتفاعل لتقريب البعيد ، وتيسير الصعب ، والجمع بين الشخوص ، والأزمنة ، والأمكنة عبر امتدادات منتشرة في الأرجاء بدقة وفعالية مندمجة ومؤثـــرة .
– الــقــسم الثاني : وأظنه القســــم الأكبر ، ليس من ناحية الحجم فقط ، وإنما من ناحية النبرة الإبداعية العالية جدا حيث مكن شاعر الملحون من منحى جديد على صعيد القوالب المستــحـــدثـــة ، والمعانـــــي الرائجة ، وساعده على أن تـتـحول المرأة إلى رمـــز ، أو رمــــوز لمعالجة قضايا المجــتــــمع الطارئة والمختلفة ، وكم كان شاعر الملحون ذكيا حين وظف المنحى الجديد للكشف عن الـــجمال والــقــبـح مما صارت إليه الحياة ، وهــو مفهوم متقدم وأنيق لإدراك أهمية المرأة ، ووجودها المجــتــــمـعـي الفاعــــل والمتحرك ، واعــتبارها من بــيــن الفرص الجدية التي يعول عليها في الإصلاح ، واستــمـــرار معانـي الحياة الجمــيلة .
وهنا كذلك سأقف على بعض النماذج الحية والدالة على معاني التـــمــــدد بالمفاهيم الاجتماعية المسايرة لنبضات الحياة المتنوعة ، وسيأتي كل ذلك وفق التسلسل التالي :
1 – موضوع اللايــــم : وهو معادل أساسي في عــملـــيـــة الإبداع ، رافق شاعر الملحون في إبداعه ، ومكنه من التمدد والامتداد في اتجاه آفاق رحبة ، قد تكون حقيقية ، وقـــــد تكون من صنع الخيال ، وما نجزم به في حيز اللوم هو وجودها في التركيبة والبنية المجتمعية والاجتماعية ، يقول الجراري عن هذه الظاهرة : ( والمحب لا يعاني من الهجر والنفور فقط ، وإنما يعاني كذلك من اللائم ، ونجـــــد المدغري يعذر لائمه ، لأنه لم يذق من كؤوس شراب الحب ، ولم يجرب الهوى وأهـــواله وكياته وآلام الـــفـــراق والهجران :
لو ذقت يا لايم كيسان اشرابي…………….تعذر من روحي الشاربا
واتجرب لهوا وجمر اشرابو
واتشوف كيتي وهجرتي واشغابي…………..واجنود الهجرا الشاغبا
وامحاور لهوا أو حر اشغابو ” 9 ” ) .
2 – موضوع الفقيه والقاضي : وهي تركيبة مجتمعية جمعت بين المفاهيم التقليدية ، ومفاهيم التطور والتجديد المتحركة في البنية المغربية الاجتماعية ، يقول عنها عباس الجراري : ( وقد أطلق الشعراء على هذا اللون من القصائد اسم ” القاضي ” وقد ذهب امثيرد إلى القاضي ليفصل بينه وبين حبيبته بعد أن غابت عنه ، وهجرته ، وتنكرت له ، وهو من حبها مروع ومسحور ، ويرجوه أن ينظر في حاله ، ويطرد عنه الأكدار :
وهو ياودي جيتك يا القاضي تفرقنا ابلفصال
إلى الحق في قبضوا مني…………………مال ولفي تاهت عـــــــني
القاضي يحسن عـــوني ………………….ما افظني ولفي تغيب عني
مـــن حبها ادهـــــــاني……………………ســـــحـــــر ادهـــاني
اهجرتني ميلافي اخليلتي صالت عل لبدور نكرتني يا حسرة
شوف من حالي يا لفقيه طرد اغياري ” 10 ” ) .
ومن الصدف الملاحظة على هذا النص هو جمعه بين مصطلحين كبيرين في المجرى الثقافي المغربي العام ، مصطلح ” لفقيه ” ومصطلح ” القاضي ” للدلالة على الامتدادات المتشابهة للمصطلحــيـــن في تركيبة المجتمع المغربي ، ويمكن أن نذهب بعيدا في الفهوم المستفادة تبعا لكل المعاني المنقــــوشة في الذاكرة المغربية سلبا وإيجابا .
3 – موضوع الحيل : وما أكثرها في متون شعر الملحون ، لجأ إليها الشاعر بقريحة متقدة ، وبـــأدوار عجيبة على مستوى الشخوص والتراكيب الفنية المستعملة ، وهذا هو الذي يجوز لنا أن نقول بأن شاعر الملحون كان يعيش أحداث مجتمعه ، ويتفاعل معها ، ويلتقط منها ما يساعده على الإجادة في إبداعاتــه الجميلة ، يقول الجراري : ( ومن الحيل أن يتنكر المحب في صفة شخص يطلب الضيافة على حــد ما فعل امثيرد في ” ضيف الله ” حيث طرق باب دار المحبوبة في الليل فنهضت من نومها ، وفتحت لـه ، ورحبت به ، وأكرمته على أنه ضيف الله ، ولكنها لم تلبث أن كشفت أمره فعاتــبــتـــه – مداعبة – أنه كـــذب ، وأنه أيقظها من نومها دون إشفاق ، وطلبت منه أن يسألها لتبادله السؤال ، مستغربة من التخفي عن عيون الأعداء والعواذل الذين وقفوا له بالمرصاد ، ودعته إلى الصفراء ، وخمر الثغر بعد أن أكـــد لها أنه لا وقت للنوم في هذه الليلة الهادئة الصافية التي تعادل ليالي بما فيها من متعة ونعيم :
أنت هو الضيف ما شفك حالي………………لكـــذوب فدينا احرام
قالت لي سالني نفيدك بسؤالي………………من بعد استويت لمنام
واخفيت على اعيون الاعدا وانكالي………….لحضرتك شدو احزام
هات الصفرا وزيد غدر فمصالي……………قلت لها ما ابقى امنام
ليلا في ليلها المنعوم اليالي………………….لا ريح ايهب لا اغيام ” 11 ” ) .
4 – موضوع التخريجات المختلفة والملائمة للمعاني الإبداعية المطروقة في قصائد هذا النوع من شعر الملحون ، ويلاحظ هنا أن شاعر الملحون كما استفاد من مكونات الواقع المغربي حاول كذلك أن يستفيـد من مختلف الأفكار التي تتحول إلى قوالب ذهنية لإحداث ذلك التفاعل والتمدد بين مخــتــــلف المضامين المتحركة على أرضية المجتمع المغربي ، وهنا سأشير إلى مثال الإفطار في رمضان ، وإلى مــــثـــال الشمعة كما تصورها شاعر الملحون ، يقول الجراري عن مثال الإفطار في رمضان : ( وقريب من هذا يحدث لابن سليمان إذا زاره محبوبه في رمضان فذاق من شهده ، وجنى من ورده ، فاتــهــم بالإفطار ، ولكنه يستفهم محاولا أن يلتمس لنفسه عذر المريض ، وأنه لا شيء عليه :
أصاح زارني محبوبي يامس كنت صايم
شهد اقطعت واجنيت الورد قالو كليت رمضان
مهجور قلت ما ذالي
احبيب الخاطر واش المريض يفطر ” 12 ” ) .
ويقول عن مثال الشمعة وهو يتحدث عن أولويات الشيخ الجيلالي امثيرد : ( لعـــله أول من اتخـــذ من الشمعة في احتراقها وذوبانها موضوعا للكشف عما يعانـــيه المحب في مقـــارنة بـــيـــن حاله وحالها ، مستعرضا على لسانها ما تمر به من مراحل فبل أن تصبح شمعة تبكي لتضيء للآخرين ، ويتضح هذا من شمعته التي يقول في حربتها :
لله يا الشمعا كري واعلاش ذا النواح والناس فلفراح
وانت اجواهر ادموع ابكاك اللا اهطيلا ” 13 ” ) .
وفي موضوع الشمعة قيلت قصائد عديدة من طرف مجموعة من الشعراء الذين أحسنوا هذا الاستعمال الجديد ، وطوروه في قصائدهم ، وجعلوا منه جسرا جامعا بين ما في الدواخل ، وبين ما هو مشاهد في الواقع مما يدخل في الحوائج اليومية الأساسية للإنسان المغربي في عيشه اليومي ، فارتقى عند شاعــــر الملحون إلى مرتبة الإنشاء والتمدد بين الأشياء المتداخلة في الوظائف الاجتماعية والإبداعية .
5 – موضوع الاهتمام بالمرأة من ناحية وسائل الزينة التي تستعملها ، وإدخاله في قالب الـــرمـــوز الخاصة بكيفية إنشاء المعاني الجديدة ، ونقلها من صبغتها الاجتماعية عبر امتدادات تحافظ على صورة المرأة الأساسية ، وتضيف إليها الأبعاد الثقافية المرادة ، يقول الجراري : ( من هذا ما يخبر به امثيـــرد في ” خلخال عويشة ” وقد اودعته إياه على إثر الزيارة أمانة أوصته بأن يصونها ، ويحفظها ليحضرها يوم الوصال ، وخبأ الخلخال في جيبه ولكنه ضاع منه ، فاحتار فيما عسى يجيب به صاحبته إن سألـــت عنه :
مهما ودعت الريم شاق شوقي من تشواقي واهواوا بالدمع انجالي
يوم اتودعت مع لغزال مدت ليا خلخال
هذا أمانا يا عشيق قالت صونو واحضيه وجدو يوم اوصالي
فمكتوبي درتو اعلى الرضا واتوضر وانشال
خلخال عويشة درت لبها في مكتوبي يا فهيم درتو وامشى لي
كيف المعمول إلى تسالني مولات الخلخال ” 14 ” ) .
إنه مفهوم جديد لمعنى الجسد ، والحضور المعنوي الأساس في المعادلة الأبدية التي تجمع ما بين الرجل والمرأة ، ومن هنا فلا غرو أن نجد شاعر الملحون يخلع مجموعة من الأوصاف على معنى ” الأمانة ” من قبيل النفاسة والجمال هي من وحي الحضور المادي للمرأة في واقع الرجل ، أو في مخيلته ، ولهــذا يقع تمدد المفاهيم من المركز وهو جسد المرأة إلى الفضاء الخارجي بكل تجلياته وإن أشير إليه هـــــنــا بمعنى ” الخلخال ” وعليه يمكن أن نستنتج ونقول بسلطة المرأة الإيجابية والمطلقة في الكون ، وهـــــذا – كما قلت – موضوع جديد يمكن أن تفرد له أبحاث عامة ومستقلة فـــي دلالات الـــمـــرأة في شـــعـــر الملحون ، ويمكن أن نــــنــظـــر إليه من زاوية الجمال ، ونعتبره مفهوما متنقلا ومتحسسا لمكانة المرأة الكونية عـــلى اتساع وتعدد مفاهيم الجمال الذاتية والجماعية والنفعية .
6 – موضــــوع لخـــــصـام : وفيه ما فيه من أدوات الفن والصنعة ، ومن نماذج الإبداع الراقية ، وفيه كذلك تتبع حثيث للمجتمع في أحواله ، وظواهره السلبية والإيجابية ، والعجيب اللذيذ هو بقـــاء المرأة في محور الإلهام والاستخدام ، ومقام الربط والرمز والجمع بين الجسد والفضاء العام .
والمتصفح لكتاب ” القصيدة ” سيلاحظ أن الجراري قسم موضوع لخصام إلى قسمين كبيرين هما : قسم يهتم ب “لخصام ” الفرد أو المتفرد وهو الغالب ، وقد مثل له بثنائيات تجمع ما بين ” لمدينية ولعربية أو لعروبية ” وما بين ” الخادم والحرة ” وما بين ” الزمنية والعصرية ” وما بين ” العروس وحـــماتــها ” والموضوع على هذا الشكل يقدم لنا صورا من المجتمع المغربي في امتداداته الساكنة والمتحـــركة يقول الجراري في تقديمه لقصيدة الشاعر ابن علي ” العربية والمدينية : ( يتحفنا ابن علي في ” قصيدة العربية والمدينية ” بحوار رائع بدأته بنت المدينة فرمت محاورتها بأنها كـــلبة الــــدوار ، ربــيـــت في الخلاء ، وذكرتها بالقرب تملأها في الصباح ، ، وبالحطب تجمعه بالنهار ، وبالرحـى تسهــــر عليها طول الليل ، حياتها تعب وشقاء ، ورجلها حافية متشققة ، ورأسها عار ، تفترس التراب عند النوم ، وتــــوســد حجر الكانون ، وشتان ما بينها وبين الحضر ، تربت مصونة في بيت العلماء………” 15 ” ) .
ومن أشهر الأمثلة الشعرية وأرقاها في نظري من ناحية التناول والتعبير قصيدة ” الزمنية والعصرية ” لحسن اليعـــقـــوبي ، تقول حربتها :
أش را من لارا لبنات يوم قاموا لكحار
زوج هيفات اصغار
شابا عصريا وامع الحاجبا فالجورا ” 16 ”
وأوجه فرادة هذه القصيدة في نظري وعلى مقتضيات موضوع ” لخصام ” متعددة ومــتـــنوعة ، منها شمولية ثنائية العنوان لمظاهر البنيات التقليدية والمستحدثة داخل المجتمع المغربي ، ومنها مـــعـــالجة مظاهر النقص والسلب في الناحيتين المذكورتين بموضوعية تبتغي تعرية المجتمع ، ومعالجة آفــــــاته بأسلوب تربوي ومنهج سلوكي متتبع ومفسر ، فارتفع الحوار بذلك عن المعاني الذاتية الضيقة كما نجـد ذلك في ثنائيات أخرى ، ومنها تقويم بعض المواقف السلبية في فهم القديم ، أو إدراك كـــنه الجديد مثل : بعض مظاهر زينة جسد العصرية ومدلولاته ، وحضور جزئية الطبخ في المعـــرفة وعــــدم المعرفة ، وبالتالي تحقيق معاني المرأة ، أو رفضها .
وقسم ثان يهتم بموضوع ” لخصام ” المتعدد داخل القصيدة الواحدة كما يقول عباس الجراري : ( وقــــد تتعدد المحاورات في قصيدة واحدة على نحو ما نجد في ” لخصام بين عشر جوار ” لابن داوود ، وهـي عبارة عن خمس محاورات ثنائية تدور بين البيضاء والسمراء ، والطــــويـــلة والقـــصيـــرة ، والسمينة والنحيفة ، والحضرية والبدوية ، والشابة والعجوز ، وهي في الواقع مجموعة محاورات مســتــقــلة ، لا يخـــرج الحوار فيها من الثنائية إلى نطاق واسع تتعدد فيه الأطراف كما يتبادر من التسمية ” 17 ” .
وملاحظة الأستاذ الجراري على معطى الثنائية المتحكم في البناء العام لقصيدة الخصام صحيحة ولكـــن التعدد يلاحظ ويحسب هنا على مفهوم المثل ، أو النمط الذي تسري فيه ثــنـائــيته بما يتلاءم مع المعاني الخاصة والمرادة لكل تأطير معين ، خاض فيه شاعر الملحون وفـــق رؤيته المجتمعية ، وامتــــداداتها الاجتماعية .
ويكفي شاعر الملحون في موضوع ” لخصام ” أنه أدار قريحته الشعرية على ثلاث مبادئ أساسية هي : التقابل والحوار والمعرفة العميقة بأحوال المجتمع في تقلباتها وتطوراتها السائرة مع الزمان والمكــان ، فكان الشاعر يلتقط صوره من وسطه ، ويخطعها لقواعد إبداع فن الملحون العامة ، ويعالجها بموهبته الخاصة ، ولهذا تمكن في النهاية من العطاء والبروز ، والإقناع ، والتجويد على نحو ما رأينا .
وأود أن أختم هذا الموضوع بملاحظة أساسية تعلقت بذهني من أول قراءة لي لكتاب ” القصيــدة ” ولا زالت تثير انتباهي ، وأتذكر فحواها المحير بشكل يومي ، بل أحفظ رقم الصفحة الـــتي وردت فـــيـــه الملاحظة المذكورة عن ظهر قلب………
الملاحظة باختصار هي قول عباس الجراري التالي وهو يدون ملاحظاته عن نظرة الزجال المغربي إلى الحياة : ( أنه على الرغم من أن الشاعر الشعبي عاش في حياته وفنه متجاوبا مع مجــتـــمعه ، مهــتــما بمشاكله ، وما يتعرض له من وقائع وأحداث ، فإنه يبدو وكأنه لم ينظر إلى هذا المجتمع إلا من عـــلــــو وبعد ، لم ينزل إليه ، ولم يقترب منه ليختلط به ، ويرسم حياته اليومية ليعرض لوحــــــة مكتملة الملامح والأبعاد ، قد يكون ذلك صحيحا ولكن إلى حد ، حقا أن الشاعر الشعبي ظل وهو يعالج مشاكل المجتمــع والحياة محصورا في نطاق خاص ، هو نطاق القضايا الكبرى التي تشغل الرأي العام من انحلال يصيب المجتمع ، أو أزمات تعترضه ، ولكنا لا نريد أن ننفي عنه النـــزول إلى الشارع والاتــــصال بالحياة في أبسط مظاهرها ، وأصغر مشاكلها ، ونكاد نجزم بأن هــذا الشعــــر ضاع بسبب عدم رغبة الجماهير في سماعه وترديده ، وبالتالي عدم إقبال المنشدين على حفظه وتداوله……….” 18 ” ) .
لا أعرف كيف فهم الأستاذ الجراري ما فهمه ، وكيف اقتنع بمثل الاستنتاجات وهو يحدثنا كما رأينا فـــي موضوع المرأة على ما حدثنا به ، وأين تلك القضايا الصغيرة المفقودة التي يريدها الأستاذ الجراري من شاعر الملحون الذي اتهمه بالعلو والبعد عن قضايا مجتمعه ؟ .
سؤال كما – قلت – محير إذا فهمناه من ناحية المواضيع المجتمعية الــدقـيــقـــة التي تعرض لها شاعـــر الملحون في إبداعاته الممتدة إلى يومنا هذا ، يمكن أن نجد للأستاذ الجراري العذر في الظروف العامــة والخاصة التي تحكمت في كتابة كتاب ” القصيدة ” أو في تصوراته الخاصة التي تـــربى عـــليها ذوقــه الرفيع وإن لم يفصح لنا باسم أي موضوع مفقود كما جاء ذلك في كل كتابه ، ولربما كان في دفاعه عـن الأدب الشعبي يريد ان يثبت للرافضين والمستهزئين بأن مجالات الأدب المذكور غطت كل ملامح الحياة المغربية ، وما لم يظهر منها هو مفقود ، وليس غير موجود .
وما يهمني هنا هو أنني أثبت هذه الملاحظة المحيرة في سياقها وإن سقناه في حجم صغير تبعا لما يمليـه علينا البحث الخاص بامتدادات قصيدة الملحون الثقافية والفنية ، ولعل في المضامين المتقدمة ما يجــيــب بدقة وتفصيل ، ويعد من الردود الصحيحة التي تثبت عكس ما ذهب إليه الأستاذ عباس الجـــــراري فـي ملاحظاته المدونة ، ويبقى علينا الآن الإشارة إلى كل المواضيع المحسوبة على قصيدة الملحون ، ويمكن أن تؤخذ نموذجا حيا وناطقا على مفاهيم الامتدادات الثقافية والفنية المنتشرة في قصيدة الملحون ، بل تعد من السمات الأساسية للقـــصيدة المذكورة ، وهذا يـــؤدي بنا إلى مراجعة معنى الأمية في حضيرة الأدب الشعبي كما يسميه الجراري ، كما يؤدي بنا إلى ضرورة طرح مطلب أساسي وسط الباحثين ، ألا وهـــو الاهتمام بمضامين قصيدة الملحون الثقافي والفنية ، فما قيل لحد الآن هو جميل وجيد ولكنه يتحكــــم فيـه طابع العموم ، ونحن نريد دراسة قصيدة الملحون من ناحية كل الأبعاد الحاضرة فيها ، وعـــــلى رأسـها الامتدادات الثقافية والفنية والاجتماعية ، وأتمنى أن أكون قد وقفت في الإشارة ، وأترك العبارة مفتوحــة لكل باحث متمكن ومنصف .
وحرر بمراكش في 5 رمضان 1440 هــ
الموافق ل 10 – 5 – 2019 م .
توقيع د . مولاي علي الخاميري
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب
الـجـــديـــــدة